خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الأعراف: ٨ - ٩.
ففي الآية الأولى تصوير لكثرة الأعمال الصالحة، وثقلها في الميزان، تقابلها في الآية الثانية صورة أخرى تتواصل مع الأولى في السياق، عن طريق التضاد، لإبراز الفروق، بين الأعمال الثقيلة والخفيفة، والأعمال الصالحة والطالحة، وبين الفلاح والخسران.
وهاتان الصورتان المتقابلتان في السياق القرآني هنا، تتواصلان أيضا في سياق آخر، مع زيادة في تصوير الجزاء والعقاب، المترتب على وزن الأعمال: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ، نارٌ حامِيَةٌ القارعة: ٦ - ١١.
ويلاحظ هنا الإجمال في صورة الجزاء على الأعمال الصالحة فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ لتلقي في الحس والشعور والخيال ألوانا من العيش الرغيد، والرضا الهنيء. أما صورة العقاب، فقد جاءت أكثر تفصيلا وإثارة، فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ والتعبير بالأم يوحي بالملجإ والملاذ، فكما أن الأمّ تندفع نحو أولادها، لتحتضنهم بين ذراعيها كذلك النار الهاوية،
التي تهوى العصاة، وتعشقهم، لأنّ «الهاوية»، من هوي يهوى فهي هاوية، تندفع إليهم في حب وهيام، وهذه الصورة. تبعث السخرية والتهكم من العاصين، أو أصحاب النار عموما، كما أنها توحي بالسقوط في المكان السحيق، ويتركها التعبير القرآني مجملة هكذا، لاستجاشة الشعور وإيقاظه لاستقبال ما بعده من وصف وتصوير وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ والسؤال يزيد من الإثارة، لمعرفة حقيقة هذه الأم الهاوية، فيأتي الجواب الحاسم الواضح بعد الإثارة والغموض، ليتعمّق الأثر الديني في أعماق الشعور والنفس.
ومن ذلك أيضا تصوير دقّة الحساب يوم القيامة بصور حسيّة مجسّمة للمعنى في الوزن والحجم والثقل مثل: الفتيل، والنقير، وحبة الخردل، ومثقال الذرة. يقول الله تعالى:
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا الإسراء: ٧١، وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً النساء: ١٢٤، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها الأنبياء: ٤٧، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة: ٧ - ٨.
ويتواصل تصوير الأعمال في السياق القرآني، لإبراز الفروق بين الأعمال المبنية على الإيمان، والأعمال القائمة على الباطل، وبيان الأعمال المعتبرة عند الله، وهي أعمال المؤمنين،


الصفحة التالية
Icon