وقد تنقل المعاني الذهنية في صور حسية ضخمة، فيها غرابة وإثارة، كالتعبير عن أمانة التكليف، وحرية الاختيار الإنساني، في صورة كونية حيّة شاخصة، فيها غرابة وإيحاء.
يقول الله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها، وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا الأحزاب: ٧٢.
والصورة الكونية بضخامتها، تعبّر عن ضخامة الأمانة وعظمها، فهي متناسقة مع المعنى، وموحية به، ويبدو الإنسان كبيرا أيضا أمام هذه الصورة الكونية التي أشفقت من حمل الأمانة، وحملها هو، مع ما ركّب فيه من شهوات وأطماع.
وتتّسم هذه الصورة المعبّرة عن المعنى الذهني بالحركة التخييلية، إذ إن الأمانة شيء مادي محسوس يعرض على السماوات والأرض والجبال على سبيل التجسيم، والسماوات والأرض والجبال، وهي صور كونية جامدة، تشخّص في كائنات حيّة تخاطب كما يخاطب الأحياء، فتدرك عظم الأمانة، وتشفق من حملها على طريقة القرآن في التشخيص. وذلك لإحياء المعنى الذهني، وإيضاحه، والتأثير فيه، فتبرز ضخامة الأمانة من خلال هذه الكتل الضخمة المشفقة من حمل الأمانة، ويبدو الإنسان الصغير في حجمه، كبيرا في مضمونه، لأنه وحده الذي حمل هذه المسئولية. ويترتّب على تحمّل الإنسان هذه الأمانة، ضخامة الثواب والعقاب أيضا، كما توحي بذلك هذه الصورة المتخيلة.
ويوضّح الزمخشري في تفسيره هذه الصورة الغريبة بقوله «فإن عرض الأمانة على الجماد، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه، غير مستقيم، فكيف صحّ بناء التمثيل على المحال؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول قلت: الممثل به في الآية مفروض، والمفروضات تتخيل في الذهن، كما المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته، وثقل محمله، بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها» «٢٠».
وهناك صور كثيرة من هذا النوع للدلالة على المعاني الذهنية، وهي واردة في الأنساق الملائكة لها ومن ذلك أيضا قوله تعالى في سياق الحديث عن تدمير فرعون وجنوده: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ الدخان: ٢٩.

(٢٠) الكشاف: ٣/ ٢٧٧.


الصفحة التالية
Icon