فالصورة هنا تعبّر عن هلاك فرعون وقومه، دون أن يحزن عليهم أحد في الأرض ولا في السماء، ولكن هذا المعنى يعرض في صورة غير مألوفة، وهي نفي بكاء السماء والأرض عليهم وهذا معروف في أساليب العرب. فإذا مات الرجل عندهم قالوا فيه بكت السماء، والأرض وبكته الريح، وأظلمت له الشمس «وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه، ونفي ذلك عنهم في قوله تعالى: فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ فيه تهكم بهم، وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده فيقال فيه بكت عليه السماء والأرض» «٢١».
ولكنّ غرابة الصور السابقة لا ترجع إلى عناصر تشكيلها، بل ترجع إلى طريقة التعبير عن المعنى الذهني، كما بينّا في تحليلها. ولكن هناك صورا فنية، تعبّر عن المعاني الذهنية، بعناصر تشكيل غير محسوسة أو غريبة، يقتضيها السياق الواردة فيه كقوله تعالى فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ النمل: ١٠، وقوله أيضا: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ الصافات: ٦٤ - ٦٥.
ولعل التصوير بهاتين الصورتين يرجع «إلى شهرة المشبه به، وكثرة تخيله، حتى ارتسمت في الخيال صورة له، تكاد تكون محسوسة، ففي الخيال صورة واضحة للجان تمثله سريع الحركة، لا يكاد يهدأ ولا يستقر، وفيه صورة بشعة مرعبة لرءوس الشياطين، وما يكمن بداخلها من إغراء تمثلها قبيحة منفرة» «٢٢».
وأحيانا تلجأ الصورة إلى المبالغة في نقل الحالات النفسية في الصدور كقوله تعالى في بني إسرائيل: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ البقرة: ٩٣.
فالصورة هنا ترسم حركة تخييلية للعجل يدخل في قلوبهم إدخالا عنيفا، بطريقة غريبة، ولكنّ هذه الصورة غير المألوفة، تتناسق مع حبّ اليهود للعجل وعبادتهم له، فهي تجسّم هذا الحب الشديد غير المألوف في صورة حسية غير مألوفة أيضا، فيها شدة وغلاظة، تناسب حبّهم الغليظ لعبادة العجل، وتتلاءم مع غلاظة طباعهم، أو مشاعرهم التي تحولت بسرعة من الإيمان إلى الكفر.

(٢١) الكشاف: ٣/ ٥٠٤.
(٢٢) من بلاغة النظم القرآني: ٣١٤.


الصفحة التالية
Icon