ويلاحظ أن هذه الصورة تنقل لنا دقائق نفوسهم وما فيها من مشاعر وأحاسيس، إذ تجعل عبادة العجل مشروبا لذيذا، أشربوه بفعل فاعل دفعة واحدة، وأشربوه في القلوب دون غيرها لأنها موضع العواطف والحب.
وهناك صور أخرى قريبة، من هذه الصور، في المبالغة والغرابة في التعبير عن المعاني الذهنية. كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الأعراف: ٤٠ المعنى الذهني هنا هو استحالة دخول الكافرين الجنة، ولكن هذا المعنى، لا يعرض عرضا مباشرا، وإنما تنقله لنا الصورة الفنية بتركيب فني يثير الغرابة والدهشة وهي استحالة دخول الجمل بضخامته في ثقب الإبرة، مهما حاول من جهد، وكرّر المحاولة، وهذه الصورة الغريبة في تشكيلها ملائمة تماما، لاستحالة دخول الكافرين الجنة، مهما حاولوا فهي محاولات يائسة كمحاولة الجمل اليائسة في ولوج سمّ الخياط، وتتفاعل هذه الصورة مع الصورة قبلها «لا تفتح لهم أبواب السماء» في السياق، للإيحاء بالرفض والاستحالة رفض قبول الكافرين، واستحالة دخولهم الجنة، وتترك الصورتان معنى الرفض ومعنى الاستحالة، ليستقرا في النهاية في أعماق النفس المتفاعلة مع التصوير الحسّي للمعنى في داخل السياق ضمن نظام العلاقة بين الصورتين في نقل المعنى
الذهني.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في التنفير من الغيبة: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ الحجرات: ١٢.
فصورة أكل لحم الميت صورة غريبة مستكرهة، تتأذى منها النفوس، وتنفر من بشاعتها، ولكنّ الغرابة في الصورة مقصودة هنا، لنقل المعنى الذهني المستغرب، وهي ملائمة له، فالإنسان يغتاب أخاه، وهو غائب، والصورة ترمز لذلك بتناول لحم أخيه وهو ميت لا يشعر بما يقوله عنه.
وتمثّل الغرابة في الصورة، الغرابة في المعنى الذهني، والمبالغة في التصوير تهدف إلى التنفير من هذه العادة البشعة، فالترابط بين التصوير والمعنى قوي بارز، فكما أن النفوس تتأذى بالغيبة كذلك تغرس الصورة في النفوس مشاعر النفور والكراهية من هذه الصفة الذميمة في الإنسان.