وقد تبعد الصورة في نقل المعنى، إلى جعل الممتنع محالا، على سبيل التخييل. كقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ المجادلة: ٢٢.
يقول الزمخشري في توضيح هذه الصورة: «لا تجد قوما من باب التخييل، خيّل أن من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، والغرض منه أنه لا ينبغي أن يكون ذلك وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم» «٢٣».
ويكثر في القرآن الكريم تصوير الحقّ بالقذيفة كقوله تعالى: قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ سبأ: ٤٨، فالحق وهو شيء معنوي يصوّر بجسم مادي محسوس، على طريقة القرآن في تجسيم المعنويات، والله هو الذي يطلق هذه القذيفة، وهي قذيفة، تعرف طريقها ومسارها، فلا يقوى أحد على إيقافها أو منعها، فهي واضحة قوية، تصيب هدفها، لأن مطلقها هو «علّام الغيوب».
وصورة القذيفة ترد في القرآن في مواضع عدّة، للدلالة على القوة والشدة في تصوير المعاني ومن ذلك قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الأحزاب: ٢٦، وقوله أيضا: وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها طه: ٨٧، وقوله أيضا: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ الأنبياء: ١٨.
وقريب من هذه الصورة في القوة والشدة، تجسيم المعنويات بصور مادية شديدة. كقوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ المائدة: ٦٤، وهنا نلاحظ تصوير العداوة والبغضاء وكأنهما مادتان ثقيلتان يلقى بهما، فيحس المتلقي بثقلهما وشدة إلقائهما.
ومن ذلك أيضا قول الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ التوبة: ٢٦.
فالسكينة هنا مادة محسوسة، لها أثرها الملموس، في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي نفوس المؤمنين. وصورة «الضرب» الحسية تتكرّر أيضا في الأسلوب القرآني للدلالة على قوة المعاني الذهنية وشدّتها كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا... النساء: ٩٤.

(٢٣) الكشاف: ٤/ ٧٨.


الصفحة التالية
Icon