إلى الأمام، للاستطلاع والدهشة مما يسمعون من بيان ساحر مؤثر، ترسم حركتهم الخفية في داخل الصدور، من خلال هذه الحركة الظاهرة لهم، وهم يتوزّعون شمالا ويمينا في جماعات متناثرة، حول الرسول ﷺ في جنح الظلام وهو يتلو القرآن. فالصورة هنا، تعبّر عن المعنى الذهني في استماعهم القرآن، والحالة النفسية في إعجابهم ببيانه، ثم ترصد حركتهم وقت الاستماع، وهيئتهم وهم جماعات موزعة هنا وهناك، وتضفي على ذلك كلّه طابع السخرية منهم، لأنهم لا يستمعون من أجل أن يؤمنوا بل من أجل أن يتآمروا، ويستطلعوا فقط.
وتجسّم الصورة حقد النفوس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حركة العيون المحدّقة بعنف وشدّة كقوله تعالى: وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ... القلم: ٥١، فهذه الصورة المرسومة للكافرين بكل ما فيها من شدة وعنف، تعبّر عن حالات النفوس الحاقدة الحاسدة على رسول الله، وقد جسّمت هذه النفوس الشريرة في حركة العيون المحدّقة بنظرات شديدة كادت أن تزلّ بأقدام الرسول من على الأرض. كما يقول الزمخشري «٢٨».
وإذا كانت الصورة هنا قد غلب عليها تصوير ما في النفوس على تصوير المعنى الذهني، فليس معنى هذا أن الصور المتقدمة كانت خالية من ذلك، بل إنّ الصورة القرآنية، صورة متكاملة تعبّر عن العقل والنفس أو الفكر والشعور معا. ولكنّنا نرى أحيانا أن المعنى الذهني، يكون هو المقصود بالتصوير أولا، والمشاعر والأحاسيس تكون مصاحبة له. وأحيانا تكون الحالة النفسية هي المقصودة أولا، والمعنى الذهني مصاحبا لها ومن ذلك أيضا قوله تعالى في تصوير خوف المشركين من المواعظ الدينية وإعراضهم عنها فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ، فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ المدثر: ٤٩ - ٥١.
والصورة هنا ترسم خوفهم وإعراضهم في حركة حمر الوحش المذعورة والخائفة، تجري هاربة من الأسد الذي يطاردها، وهي صورة مجسّمة لحالة النفوس الخائفة والمضطربة، والتي فقدت السيطرة على أعصابها فولّت هاربة في كل ناحية. يقول الزمخشري: «وفي تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة، وتهجين لحالهم بيّن، كما في قوله