تعالى: كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً وشهادة عليه بالبله وقلة العقل، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش واطرادها في العدو إذا رابها رائب» «٢٩».
وتجسّم الصورة حقيقة الأعداء في مشهد حيّ متحرك، يضمّ صورا عدّة لنفوس الأعداء وما فيها من عداوة ونفاق ورياء وغيظ وحقد، وذلك في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ، قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ، قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ، إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ آل عمران: ١١٨ - ١٢٠.
فالصورة المرسومة هنا لأعداء المسلمين، واضحة بكل ملامحها وحركاتها وخطوطها، تجمع بين التصوير الحسّي، والتصوير النفسي في التعبير، والتصوير الحسي لأعداء المسلمين ظاهر في تحركاتهم الذاهبة الآئبة بالمكر والخديعة والتآمر، والتصوير النفسي، يكشف خفايا النفوس الباطنة، فوراء التظاهر بالمودة والصداقة نفوس حاقدة ماكرة، تعرّي الصورة حقيقة هؤلاء، وتزيل مظاهر الخداع عنهم، لتفضح حقائق نفوسهم وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ.
ويلاحظ أن الصورة ترسم مشهدا، فيه مناظر عدة، منظر الرياء والنفاق للأعداء حين يلتقون بالمسلمين، ومنظر ثان حين يخلو بعضهم إلى بعض في الخفاء، ترسمه صورة حسية ناطقة عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ومنظر ثالث يفصّل في تصوير غيظهم، فهم يغتاظون منكم، إن مستكم الحسنة، ويفرحون إن أصابتكم المصيبة.
ويوضّح أحمد بن المنير في هامشه على الكشاف الفرق بين تصوير الحسنة بالمس، والسيئة بالإصابة فيرى أن المس هو أقل تمكنا من الإصابة، وهو أقل درجاتها، فالأعداء كانوا يغتاظون من أدنى حسنة تصيب المسلمين ولو كانت مسّا خفيفا، وذلك لحقدهم وحسدهم، ولكنهم كانوا يفرحون إذا تمكنت المصيبة منهم «٣٠».
(٣٠) انظر هامش الكشاف: ١/ ٤٥٩.