والظاهر من عبارة الجاحظ؛ أنه ينحاز إلى الشكل في مفهومه للتصوير مقلّلا من أهمية المعنى، كما يرى الدكتور إحسان عباس «١٠». ولكن لماذا اتجه الجاحظ هذا الاتجاه الشكلي في التصوير مع أنه ليس من الشكليين في التطبيق؟
قد يكون هدف الجاحظ من عبارته المذكورة الرد على أستاذه النظّام الذي يقول «بالصرفة» في إعجاز القرآن فأراد الجاحظ أن يرجع الإعجاز إلى صياغة القرآن الكريم ونظمه، وليس لقانون «الصّرفة». أو لعله يريد أن يرد على النقاد الذين انصرفوا إلى متابعة الشعراء في «سرقات المعاني»، أو ربما يرجع السبب إلى الجاحظ نفسه الذي لم يكن يعجزه الموضوع أو المعنى، فأحس بأن المعنى مبذول في الطريق، وأن القيمة تكمن في الصياغة والتصوير، فالجاحظ لم يكن يدور في ذهنه أن يفضل الشكل على المضمون في عبارته هذه، أو أن تصبح هذه العبارة «نظرية» مطبقة عند البلاغيين من بعده، الذين انصرفوا إلى العناية بالصورة الشكلية على حساب المعاني والأفكار.
ثم جاء قدامة بن جعفر (ت ٣٣٧ هـ) فاتجه اتجاها شكليا، في فهم الصورة، متأثرا بالثقافة اليونانية وفلسفتها في الفصل بين «المادة والهيولى»، ويقيس الصورة الفنية في الشعر على الصورة في المواد المحسوسة، مكررا رأي الجاحظ في قياسها على المواد المحسوسة كالخشب والفضة وغيرهما، وكأن الصورة تعني تشكيل المادة في هيئة معينة يقول: «إن المعاني كلها معرضة للشاعر، وله أن يتكلم منها فيما أحب وآثر، من غير أن يحظر عليه معنى يروم الكلام فيه. وإذ كانت المعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة، والشعر فيه كالصورة، كما يوجد في كل صناعة من أنه لا بد فيها من شيء موضوع يقبل تأثير الصورة فيها، مثل الخشب للنجارة والفضة للصياغة» «١١».
فقدامة في هذه العبارة لا يقدم مفهوما جديدا للصورة، وإنما يكتفي بالتركيز على الفصل بين المادة والصورة. فيعتبر «الصورة» تقابل «المادة»، وكأنها هيئة خارجية لها أو شكل، فهو يفصل بين الشكل والمضمون، ليطلق حرية الشاعر في اختيار المعاني التي يريد، طالما صحت الأشكال الخارجية للشعر. وهذا الفهم للصورة هو فهم الفلاسفة الذي يفصلون بين
(١١) نقد الشعر: قدامة بن جعفر: ص ١٤.