المادة والصورة «١٢». فالعمل الأدبي- في طبيعته- لا يمكن أن يقرّ هذا الفصل بين الشكل والمضمون، فهما متلاحمان فيه كتلاحم الروح في الجسد. وقد قام عبد القاهر الجرجاني فيما بعد بالقضاء على هذه الثنائية في فهم الصورة، فربط بين الشكل والمضمون في نظريته المعروفة ب «نظرية النظم» وسوف أتحدث عنه بعد قليل.
ويلتقط الرماني (ت ٣٨٦ هـ) فكرة التصوير من الجاحظ، ويخطو بها خطوة أخرى، فيطوّرها من خلال تطبيقها على استعارات القرآن الكريم وتشبيهاته، ويصبح مفهوم «التصوير» أكثر تحديدا عنده.
فالتصوير عند الرماني هو «تجسيد المعنويات في صورة المحسوسات التي ترى بالأبصار» «١٣». وتقوم الصورة البلاغية عنده بنقل المعنى المجرد إلى الحس العيني، فقوله تعالى: تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ الملك: ٨ «الاستعارة أبلغ لأن مقدار شدة الغيظ على النفس محسوس» «١٤»، وقوله: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ آل عمران: ١٨٧، التعبير بالاستعارة أبلغ «لما فيه من الإحالة على التصور» «١٤»، وقوله: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ إبراهيم: ١، «والاستعارة أبلغ لما فيه من البيان بالإخراج إلى ما يدرك بالأبصار» «١٤».
ويتحدث عن وجوه التشبيه الأربعة:
فالأول: هو إخراج ما لا تقع عليه الحاسة إلى ما تقع عليه الحاسة.
والثاني: إخراج ما لم تجر به عادة إلى ما جرت به العادة.
والثالث: إخراج ما لا يعلم بالبديهة إلى ما يعلم بالبديهة.
والرابع: إخراج ما لا قوة له في الصفة إلى ما له قوة في الصفة «١٧».
ويمكن حصر هذه الوجوه الأربعة للتشبيه في وجهين اثنين هما: تجسيد المعنوي في صورة حسية، والانتقال من صورة حسية إلى صورة حسية أكثر وضوحا.
ويبدو أن الرماني قد توصّل في دراسته للإعجاز في القرآن إلى تميّز التشبيه والاستعارة

(١٢) تاريخ النقد الأدبي عند العرب: ص ١٨٩ وما بعدها.
(١٣) الصورة بين القدماء والمعاصرين: الدكتور محمد إبراهيم عبد العزيز شادي. ص ١٨.
(١٤) النكت في إعجاز القرآن: للرماني ص ٨٠، ٨٤، ٨٥ (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن).
(١٧) المصدر السابق: ص ٧٤ - ٧٨.


الصفحة التالية
Icon