سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير، والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ منهما خاتم أو سوار.
فكما أن محالا إذا أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة، كذلك محال إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام أن تنظر في مجرد معناه» «٢٥».
ويتضح من عبارته هذه أن الصياغة- عنده- تعني الصورة، والصورة تعني الصياغة أو النظم، ومعيار الجودة ليس في المادة المكونة للصورة، وإنما في التشكيل الفني للصورة، لأن الصورة هي التي تجعل الفضة خاتما أو سوارا «٢٦».
ويلاحظ أن الجرجاني ما زال يقيس الصورة في الكلام على الصورة في المواد المحسوسة، ولكنه يزيل اللبس الذي لحق بأقوال سابقيه حول الفصل بين اللفظ والمعنى، أو المادة والصورة، ويرى أن العلاقة بين الصورة ومادتها علاقة تفاعل وانصهار لتوليد المعنى المراد، فليس هناك ثنائية منفصلة بين اللفظ والمعنى وإنما هناك التفاعل لتوليد عنصر جديد ثالث هو «الصورة».
فنحن- كما يرى الجرجاني- لا ننظر في صوغ الخاتم إلى مادته الذهبية أو الفضية المصنوع منها، وإنما ننظر إلى جودة صياغته. وقياسا على ذلك فإن جودة الكلام لا ترجع إلى معناه، بل ترجع إلى بلاغة نظمه، وجودة صياغته.
ويوضّح الجرجاني طبيعة الصورة فهي «تمثيل وقياس» وهي أيضا إبراز للمعنويات في صور المرئيات يقول: «واعلم أن قولنا صورة إنما هو تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا» «٢٧».
ويشعر الجرجاني بالخطوة الجديدة التي يضيفها إلى مفهوم الصورة ودور العقل في تشكيلها، فيلفت الانتباه إلى أن مصطلح الصورة قديم، أشار إليه الجاحظ من قبل. يقول الجرجاني: «وليس العبارة عن ذلك بالصورة شيئا نحن ابتدأناه فينكره منكر بل هو مستعمل
(٢٦) الصورة البلاغية عند عبد القاهر الجرجاني: الدكتور أحمد علي دهمان ج ١ ص ٣٨٩ - ٣٩٠.
(٢٧) دلائل الإعجاز: ص ٥٠٨.