يحلّل الصورة وفق مفهومه لها في ربطها بالصياغة الفنية، ولا ينظر إليها من خلال ألفاظها المفردة، ويرى أن الناس يرجعون جمال هذه الصورة إلى الاستعارة دون سواها، ولم ينظروا إلى الصورة من خلال جمال النظم. فالإسناد الوارد في الصورة هو مصدر جمالها وحسنها، فلو قيل «واشتعل شيب الرأس» ما بقي للصورة هذا الحسن والجمال، ويعلّل الجرجاني سرّ الجمال في إسناد الاشتعال للرأس بأنه «يفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه وأخذه من نواحيه... » «٣٧».
فالجرجاني يركّز على أن الصورة هي في النظم أو الصياغة، ليثبت أنّ الإعجاز في القرآن يرجع إلى نظمه وصياغته، وأنّ الاستعارة الواردة في الآية هي من عناصر تشكيل الصورة. فليس هناك مصطلحان للصورة عند الجرجاني في كتابيه، وإنما هو مصطلح واحد، وضّحه في كتابه الدلائل ثم خصّص كتابه الأسرار لتوضيح عناصر التصوير وأدواته.
ولولا سيطرة قضية الألفاظ والمعاني عليه لتوصّل إلى قضايا نقدية أخرى متعلقة بالصورة، ولكنّ هذه القضية صرفته عن كثير مما كان وشيكا أن يصل إليه كما يقول سيد قطب عنه «٣٨».
وقد حاول الزمخشري (ت ٥٣٨ هـ) أن يسير على طريقة الجرجاني في التصوير، فاستخدم مصطلحات عدّة: مثل التصوير والتمثيل والتخييل، وكلّها عنده تبرز المعاني المعقولة في صور حسية.
وقد فسّر المعاني القرآنية والحقائق الدينية، على ضوء التصوير، فوضّح أن التشبيهات «إنما هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأشياء، حتى تبرزها، وتكشف عنها،
وتصورها للأفهام» «٣٩».
فدور التمثيل هو الكشف عن المعاني الغامضة، والتصوير بمنزلة التشكيل لها يقول:
«لأن التمثيل مما يكشف المعاني، ويوضّحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها» «٤٠».
وهذه العبارة توهم أن التمثيل غير التصوير عنده، بينما هما مصطلحان لمعنى واحد،
(٣٨) التصوير الفني في القرآن: سيد قطب ص ٣١.
(٣٩) البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري: الدكتور محمد محمد أبو موسى. ص ٤٠٣.
(٤٠) المصدر السابق: ص ٤٠٤.