وهذه السمة الفنية في العربية، بلغت حدّا معجزا في القرآن الكريم، من حيث، جودة مفرداته، وجمال تصويره وعذوبة إيقاعه، ودقّة معانيه.
يقول الله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا الطور: ١٣.
فالدعّ هو الدفع بالظهور، والمدفوع في النار، يصدر صوتا قريبا من جرس العين الساكنة، فيما يشبه الصراخ والعويل، لذلك فإنّ الصورة هنا تبنى من صوت الحرف أولا، للدلالة على تلك الصورة المرعبة بهيئتها، وصوتها، وحالة المدفوع النفسية.
فجرس الكلمة، رسم لنا هذه الصورة الحسية والنفسية، بكل ما فيها من هيئة وحركة وصوت، ثم إنّ تكرار جرس الكلمة في السياق، ولّد إيقاعا موسيقيا شديدا، يتناسق، مع شدّة يوم القيامة وأهواله.
ونموذج آخر للتركيب الفني للكلمات القرآنية، وما فيه من إيحاءات غنيّة، منبعثة من وزن الكلمة، وحركاتها.. قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ التوبة: ٣٨.
فلفظة اثَّاقَلْتُمْ توحي بالثقل من خلال وزنها على عكس كلمة «تثاقلتم» فهي توحي بالخفّة، لاختلاف الوزن بين الكلمتين.
وقد استثمر القرآن الكريم، هذه الخاصيّة في اللغة العربية، في رسم صورة المتثاقل عن الجهاد، وشدّة الروابط الأرضية التي تقعده، وتقيّد من حركته، وتمنعه من الخروج للجهاد، فكان هذا الاعتماد على كلمة اثَّاقَلْتُمْ الموحية بالشدة، وثقل الروابط الدنيوية المانعة من الجهاد، كما أنّها ترسم بجرسها صورة المتثاقل، والحركة المتدرّجة له في القعود، حتى ينتهي إلى التشبث بالحياة بقوة وعنف، كما يوحي بذلك المقطع الأخير من الكلمة «تم».
ويضاف إلى ما ذكرناه من خصائص فنية للغة العربية، أنها تحتفظ بالدلالة الحسية للفظ مع الدلالة المجازية، وهذا يكسب اللفظ ثروة فنية، وقدرة على الإيحاء بالمعنى الحسي والمجازي معا «١٧».
وكثير من صور القرآن، تعتمد على مفردات منقولة من حالة حسية إلى حالة معنوية، حتى تلمس الحس والخيال معا كقوله تعالى: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ

(١٧) اللغة الشاعرة: ١٣ - ١٤.


الصفحة التالية
Icon