وإذا انتقلنا من البناء الشكلي للكلمة إلى مضمونها، فإنّنا نلاحظ أن هذا التكوين الصوتي طولا وقصرا مرتبط بالمعاني والأغراض المراد تصويرها.
فقوله: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ كلمة سَنَسْتَدْرِجُهُمْ توحي بجرسها الصوتي الطويل المقاطع بطول غفلتهم وعدم إيمانهم. وفي كلمة أَنُلْزِمُكُمُوها إيحاء بالإكراه والثقل المناسب لمعنى رفضهم الآيات، وعدم تقبلهم لها، ونطق الكلمة يرسم هذا الاستكراه للآيات، واستثقال الكافرين لها. كما هو مستكره ثقيل في جرس اللفظ نفسه. بالإضافة إلى ما في الكلمة من اختزال للمفعولين في لفظ واحد وهما الكفار والآيات.
وهكذا يمكن أن نتلمّس المعاني من خلال بناء المفردات المطوّلة، والمفردات القصيرة، من حيث تنويع حروفها، وتنويع صفاتها وحركاتها أيضا.
فالمفردات القرآنية مرتبطة بالمعاني الدينية، لذلك فهي تطول أحيانا وتقصر، وأحيانا ترقّ وتشفّ، وأحيانا تشتد وتعنف. كقوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فكلمة نهر بجرسها الموسيقى ترسم ظلال اليسر والنعمة والطمأنينة. واللفظ ناعم هادئ، ملائم لهذه المعاني المرسومة من إيقاعه أيضا في ذلك المكان الآمن الهادئ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ.
وقد يشتدّ إيقاع اللفظ ويقوى، للإيحاء بالمعنى الشديد، كالتعبير عن يوم القيامة ب «الحاقّة والصاخّة والطامّة وغير ذلك». وكلّها ألفاظ شديدة الوقع على الأذن، قوية الجرس، تناسب أهوال القيامة وشدائدها. وقوة الجرس وشدّته، ملحوظة في بناء الكلمة المعتمد على حرف ممدود بالألف «حا- صا- طا» ثم إيقاع المدّ على حرف مشدّد، بعد هذا الارتفاع في حركة المدّ، فهذا الوقوع على الحرف المشدّد يزيد من شدة الإيقاع وقوته ثم وجود التاء في نهاية اللفظ، والتي تنطق هاء ساكنة عند الوقف توحي بانتهاء الشدّة عند السكون الملحوظ في نهاية اللفظة «الحاقّة- الصاخّة- الطامّة».
وهذا يعني أن الجرس اللفظي يرتبط أيضا بحركات الحروف، ومدودها بالإضافة إلى ما ذكرناه حول مخارجها وصفاتها.
فمن مجموع هذه العلاقات المتشابكة والمتآزرة في اللفظ الواحد، ويتألّف الجرس اللفظي، بالإضافة إلى الجرس الداخلي للكلمة المرتبط بدلالتها على المعنى.
وقد انتبه «يحيى العلوي» في كتابه «الطراز» إلى ورود كلمات في القرآن بصيغ الجمع


الصفحة التالية
Icon