توضع في السياق الملائم لها. وقد بسط عبد القاهر الجرجاني ذلك في نظرية «النظم» التي أشرنا إليها في الباب الأول.
والسياق هذا الذي يمنح القوة للألفاظ، ويظهر كنوزها المشعّة بالصور والظلال والإيقاع العام.
ف «حين تتجمّع الكلمات في الجمل، وفي العبارات، تكتسب جرسا موسيقيا آخر، زيادة على ما كان لها من موسيقى فردية» «٣٢».
كما أنّ الألفاظ: «لا تستطيع أن تعطي دلالتها كاملة إلا في هذا النسق، وتستمد العبارة دلالتها في العمل الأدبي من مفردات الدلالة اللغوية للألفاظ، ومن الدلالة المعنوية الناشئة عن اجتماع الألفاظ، وترتيبها في نسق معيّن، ثم من الإيقاع الموسيقى الناشئ من مجموعة إيقاعات الألفاظ متناغما بعضها مع بعض ثم من الصور والظلال التي تشعّها الألفاظ متناسقة في العبارة» «٣٣».
ويمتدّ نظام العلاقات السياقية، ليشمل نظام «الفواصل» القرآنية، فهي تعتمد على «التنويع» ولا تأتي على نسق واحد. فمنها الطويلة، والمتوسطة، ومنها القصيرة، كما أن رويّها يختلف في السور القرآنية وحتى في السورة الواحدة غالبا، لتبتعد الفاصلة القرآنية عن مظنّة السجع المعتمد على النظام الموحّد في حركة حرفه الأخير.
والفاصلة في القرآن، كالقافية في الشعر، لها دورها الإيقاعي في نهاية كل آية، ولكنّ وظيفتها ليست إيقاعية فنية فحسب، وإنما هي مناسبة للمعنى، تزيد في وضوحه وجلائه، وهي ملائمة للسياق، كما أنّها تحكم المعنى في نهاية السياق، وتقوّيه من خلال إيقاعها الموسيقى الخاص.
وقد أكّد الرمّاني قديما على الفارق بين الفاصلة والسجع بقوله: «الفواصل حروف متشاكلة في المقاطع، توجب حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة، والأسجاع عيب، وذلك لأنّ الفواصل تابعة للمعاني، وأمّا الأسجاع فالمعاني تابعة لها» «٣٤».

(٣٢) الأصول الفنية للأدب: عبد الحميد حسن. ص ٤٠.
(٣٣) النقد الأدبي أصوله ومقوماته: سيد قطب ص ٤١.
(٣٤) النكت: ثلاث رسائل في الإعجاز. ص ٨٩ - ٩٠.


الصفحة التالية
Icon