فالفاصلة إذا مرتبطة بالمعنى قبلها، ولا تنفكّ عنه، ضمن روابط السياق. ولكنّ علاقتها المعنوية قد تكون واضحة، وقد تكون خفيّة. وهي في الحالتين موجودة، لأنّ الأسلوب القرآني يعتمد على نظام العلاقات المعنوية والفنية. ونظام العلاقات هذا هو سرّ من أسرار إعجازه، كالإعجاز الكوني القائم على هذه العلاقات المتناسقة حتى ترتبط أجزاؤه، ولا تتصادم أو تنفلت.
وقد حاول الدكتور حفني محمد شرف أن يضع يده على نظام الروابط والعلاقات بين الفاصلة، والسياق المعنوي للآيات، فرأى أن القرآن الكريم يستعمل كلمة «يعلمون» في سياق يتحدث عن أمور ترجع إلى العقل وحده، وأمّا حين يتحدث عن أمور مرتبطة بالحواس، فإنّه يستخدم كلمة يشعرون «٤٠».
ويمكن أن نلاحظ الفارق بين نظرة الزمخشري، ونظرة الدكتور حفني، فالزمخشري قصر تفسير الفاصلة على الآية الواردة فيها، ضمن المعنى المراد، دون أن يحاول أن يتوصّل إلى قاعدة عامة لاستخدام الفواصل، كما فعل حفني محمد شرف.
وتقوم الفاصلة أحيانا بزيادة توضيح المعنى، كقوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ النمل: ٨٠، فالفاصلة مُدْبِرِينَ قد تبدو زائدة، ذكرت لمراعاة النسق الموسيقى دون المعنى، لأن ولّوا، تدلّ عليها، ولكن التأمل في المعنى يظهر أن مُدْبِرِينَ توحي بالإعراض الكلي عن سماع دعوة الحقّ وكلمة وَلَّوْا لا تدلّ على ما تدل عليه الفاصلة، لأن التولي قد يكون بجانب دون آخر، فيتولّى بوجهه مثلا، وهو يسمع بأذنيه، ولكن هؤلاء الكافرين أعرضوا كلية عن سماع خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إنهم أتبعوا الإعراض عنه، بحركة الإدبار الموحية بالازدراء والاستخفاف، فالفاصلة هنا تتمّم المعنى، وتجعله تولّيا بالكلية، كما أنها تصوّر المعنى بصورة ساخرة مضحكة فيها تحقير لهؤلاء الذين لا يسمعون كلمات الحق والهدى.
والفواصل القرآنية نوعان- كما يقول الرماني- فهناك الفواصل المعتمدة على الحروف المتجانسة كقوله تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى طه: ١ - ٣. وكقوله:
وَالطُّورِ، وَكِتابٍ مَسْطُورٍ الطور: ١ - ٢، والفواصل المعتمدة على الحروف المتقاربة كالميم والنون:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة: ٢ - ٣، وكالدال مع الياء ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.. «٤١».

(٤٠) الإعجاز البياني بين النظرية والتطبيق: د. حنفي محمد شرف. ص ٢٢٤.
(٤١) النكت: ص ٩٠.


الصفحة التالية
Icon