عاد إلى النظام الأول في الفاصلة نفسها، والحرف المعتمدة عليه، لأنّه عاد إلى السرد القصصي من جديد. يقول تعالى وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا مريم: ٤١.
وهذه الملاحظات على الرغم من قيمتها إلا أنها تبقى ذوقية، لا تعتمد على رؤية منهجية في تحليل الظاهرة لأننا نلاحظ أن الآيات ظلّت على نظام الفاصلة نفسها في موضوع آخر كقوله تعالى: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا... مريم: ٥٨.
وقد أدرك سيد قطب صعوبة ما يسير عليه في الاستنباط، فاعترف بأن ما توصّل إليه، لا يفسّر إلا بعض المواضع التي ورد فيها تنويع الفواصل، وبعضها الآخر ظلّ مجهولا لم يدركه يقول: «وقد تبيّن لنا في بعض المواضع سرّ هذا التغيّر، وخفي علينا السرّ في مواضع أخرى، فلم نرد أن نتمحل له لنثبت أنه ظاهرة عامة كالتصوير والتخييل والتجسيم والإيقاع» «٤٤».
ولا نريد أن نطيل أكثر من ذلك في دراسة الفاصلة، لكن يكفينا أن نركّز على ارتباطها بالصورة الفنية المرسومة من خلال نظام العلاقات التصويرية والفنية في رسم المشاهد والصور، فهي بإيقاعها الموسيقى الجلي في نهايات الآيات، واتساقها مع المعنى، تشترك في تكوين الإيقاع الموسيقى المصاحب للصورة الفنية.
وقد بلغ القرآن في هذا الجانب، قمة التصوير، وروعة التعبير المتناسق.
كقوله تعالى في تصوير طوفان نوح: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ، قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ، وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود: ٤٢ - ٤٤.
فالفاصلة هنا مرتبطة بالمعنى قبلها، ومتناسقة معه فقوله الْكافِرِينَ وردت عقب تصوير هول الطوفان المدمّر للكافرين، والْمُغْرَقِينَ في سياق قول ابن نوح سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ فكانت الفاصلة لتأكيد إغراقه مع الكافرين والظَّالِمِينَ جاءت في نهاية تصوير الطوفان، وإقلاع المطر واستواء السفينة على الجودي، فكانت الفاصلة بمنزلة رسم