وإذا كان التصوير قاعدة الأسلوب القرآني، فلا بد من دراسته على منهج جديد، لبيان الأصول العامة لهذا التصوير الفني، منهج يتجاوز دراسات القدماء، ولا يتجاهلها، لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى الخصائص العامة للجمال الفني سواء في القرآن أم في الأدب، لأنهم كانوا ينظرون إلى النصّ كأجزاء منفصلة، حتى غدا البيت الواحد، وحدة مستقلة عندهم، فلم ينظروا إلى العمل الفني نظرة كلية شاملة، ليدركوا العلاقة بين الصور الجزئية والصور الكلية، كذلك لم يركزوا على التأثير النفسي للصورة.
وقد أدرك سيد قطب نوعين من الصور في القرآن، صور محسوسة، وصور متخيلة، فالصور المحسوسة هي المستمدة من عالم الحواس، والصور المتخيلة هي التي يقوم الخيال بتأملها ومتابعة أشكالها الفنية. وكما جعل «التصوير» قاعدة التعبير في القرآن، فإنه يجعل «التخييل الحسي» قاعدة التصوير.
فالحس والخيال هما العنصران المكوّنان للصورة، وهذا ما يفهم من قوله: «يعبّر بالصورة المحسّة المتخيلة» «٨٩».
ويبدو أن الحس والخيال يتعاونان على رسم الصورة الفنية في القرآن، فتثير بذلك الحسّ والخيال لدى المتلقي فقوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً مريم: ٤ صورة تثير في الخيال حركة تخيلية سريعة هي حركة الاشتعال التي تتناول الرأس في لحظة، وهي حركة تلمس الحس والخيال معا «٩٠».
وأحيانا تكون الصورة «متخيلة»، كقوله تعالى: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الأعراف: ٤٠ فصورة الجمل هنا وهو يحاول الدخول في ثقب الإبرة صورة متخيّلة، يتخيل الذهن محاولات الجمل اليائسة المتكررة دون فائدة «٩١».
وأحيانا يكون التخييل بالتشخيص، وأحيانا بالتجسيم الفني. ويتوسّع سيد قطب في مفهوم الصورة لتشمل التعبيرات الحقيقية أيضا والألفاظ المصورة، فالصورة باللفظ ترسم «تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن، وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال، وتارة بالجرس
(٩٠) المصدر السابق: ص ٣٣.
(٩١) المصدر السابق: ص ٣٨.