إيذانا بانتهاء العالم المحسوس، وبداية عالم غير محسوس، وهو النبأ العظيم، ثم تعرض مشاهد العذاب، ومشاهد النعيم وتختم السورة بتمني الكافر العدم على الحياة وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً النبأ: ٤٠.
فالوحدة الفنية بارزة في وحدة الموضوع، وترتيب الأفكار والصور في شريط واحد معروض بتدرّج وتسلسل حتى النهاية ضمن نظام العلاقات الواضح في التعبير والتصوير، ثم تأتي الخاتمة تتناسق مع المطلع في الحديث عن النبأ العظيم، فهي تظهر أثر النبأ العظيم في نفس الجاحد، وتمنيه أن يكون جمادا حتى لا يحاسب. وبين المطلع والخاتمة تتدفق الصور في وحدة وانسجام، في شريط متحرك مؤثر في النفوس، حتى إذا وصلنا إلى النهاية، نكون قد وصلنا إلى ذروة بناء الصورة، وقمة هذا البناء، في وحدة تصميم يجمع بين التعبير والتصوير، ليحقق الغرض الديني والفني معا.
وسورة «الرحمن» تبدأ بمطلع «الرحمن»، ثم تنساب الصور كلّها لعرض آيات الرحمن في تعليم القرآن وخلق الإنسان، وتعليمه البيان، ثم آياته في الصور الكونية في الشمس والقمر، والنجم والشجر، والسماء المرفوعة والميزان، والأرض، وما يرتبط بها من فاكهة ونخل وحب وريحان، ثم آياته في الجن والإنس، ثم آياته في المشرقين، والمغربين، والبحرين، والبرزخ بينهما.. وكلها صور حسية، تعرض لإبراز قدرة الرحمن والتعريف به.
وبعد أن تمّ استعراض المشاهد المحسوسة، يعرض مشاهد زوالها، وهذه المشاهد للفناء تقابل المشاهد الأولى لها ومقابل مشاهد الفناء، البقاء المطلق للرحمن.
ثم تعرض مشاهد القيامة لتوضيح ما بعد الفناء من عالم آخر، ويبدأ هذا العالم بمشاهد كونية مخيفة.
ثم تعرض مشاهد العذاب مفصّلة، وكذلك مشاهد النعيم، ليبلغ التأثير مداه. ثم يأتي ختام التصوير بقوله: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ الرحمن: ٧٨.
ويلاحظ هذا الترابط بين المطلع والختام، وقد تدفّقت الصور بينهما بنظام أيضا وترابط.
فكل صورة جزئية، ترتبط بصورة أخرى، حتى تتكوّن من هذه الصور، صورة كلية واضحة الآثار في القدرة على الإماتة والإحياء، والعقاب والثواب.