فالصورة على قول باوند توحّد الأفكار والعواطف معا في مكان وزمان معينين، ولكن الصورة المعروضة في المكان والزمان لا تبقى في إطارها لدى المتلقي، وإنما تمنحه شعورا عاليا، يتخلص فيه من حدود الزمان والمكان للصورة في تشكيلها الأولي، لينتقل إلى حالة شعورية معادلة للحالة التي تصوّرها الصورة الفنية.
وهذا الإحساس التي تولده الصورة في المتلقي هو «الإحساس بالنمو المفاجئ الذي نجده ونحن في حضرة روائع الفن العظيمة» «٢١». فقوة الصورة تكمن في قدرتها «على التأثير الانفعالي» «٢٢».
ويبدو أن تأثر المتلقي بالصورة يرجع بالإضافة إلى كونها حسية، إلى ارتباطها بالعاطفة الإنسانية لذلك فإن الإنسان يشعر بالتجاوب الداخلي مع الصور الفنية المثيرة للعواطف.
لأنه يرى نفسه مصوّرة في الصورة المرسومة، فيرى فيها مشاعره وعالمه الداخلي، فتكشف له أسراره وغوامضه، فتحركه من داخله ليتجاوب ويتأثر بها.
وقد بلغت الصورة القرآنية القمة في التأثير بالمتلقي، لأنها تثير الشعور الديني والشعور الإنساني معا فهي تهزّ أعماق الإنسان، لتوقظه على حقائق الحياة، وحقائق الوجود، عن طريق المشاهد المعروضة، والصور الشاخصة، والنماذج المرسومة، والأحداث الواقعة، والقصص الماضية، ليبلغ التأثر الوجداني مداه، وتتفتح منافذ النفس لاستقبال التأثير عبر الفكر والوجدان، والعقل والشعور معا.
وتنفرد الصورة القرآنية بتصوير حقائق الحياة والكون والإنسان، وما وراء الحياة المنظورة من حياة أبدية في العالم الآخر، وقد بلغت بهذا التصوير لهذه الحقائق قمّة التأثير بالمتلقي، فآمن من آمن بالقرآن، وأعرض عنه المشركون استكبارا، مع إقرارهم بقوة تأثير الصور القرآنية فيهم.
والمكوّن الخامس هو «اللغة» فهي وسيلة نقل الأفكار والعواطف، وقد تميّزت اللغة العربية عن غيرها من اللغات الأخرى بخصائص فنية أهلّتها لتكون لغة للقرآن الكريم، فهي من أكثر اللغات انسجاما مع التعبير الفني، وإثارة الأحاسيس الفنية والإنسانية، وتلاؤما مع

(٢١) لغة الشعر العربي الحديث: ص ١٠٤.
(٢٢) الصورة الشعرية في الخطاب البلاغي والنقدي: ص ١٦.


الصفحة التالية
Icon