مع بقاء المعاناة النفسية بعد التمزيق والتفريق كقوله تعالى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ سبأ: ١٩، فالتمزيق هنا يوحي بانتزاع القوم من الجسم الحي للجماعة، وشدة معاناتهم النفسية بهذا التمزيق، لأن روابط القربى والمودة قائمة وممتدة ولكن التمزيق هو الذي شق هذه الروابط، وفرّقها مع بقاء الروابط النفسية، وذلك للإيحاء بتعذيبهم نفسيا بهذا التمزيق والتفريق.
فالاستعارة في القرآن، فيها التفاعل بين حدي الاستعارة، والتفاعل مع السياق الواردة فيه، لتحقيق التناسب الشكلي والنفسي في الصورة لذلك كان لفظ التمزيق هنا، ولفظ التقطيع في الآية الأولى، زيادة في الدقة في أداء المعنى، على الرغم من التقارب بين اللفظين، والقرآن الكريم يستثمر هذه الفروق اللغوية في التصوير الفني، لتحقيق أغراضه الدينية من خلال هذا التصوير الدقيق.
وقد يعتمد الاستعمال الاستعاري على «التجسيم الفني» لأنه أكثر جاذبية، وأعمق تأثيرا، وأكثر إثارة للخيال، لذا يكثر القرآن الكريم من عرض المعاني في صور مادية
مجسّمة، بحيث تراها العين، ويتملّاها الخيال. مثال ذلك قول الله تعالى: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً البقرة: ٢٥٠، فالصبر وهو شيء معنوي يصبح مادة مجسمة، بحيث يفرغ في قلوب المؤمنين، فيزيل ما في نفوسهم من ألم وشدة وكرب وخوف. وفي قوله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ الأنبياء: ١٨، فالحق هنا يعرض في صورة مادية مجسّمة، يقذف به فوق الباطل، فيعلوه فيزيله، وبالمقابل فإن الباطل قد جسّم في صورة مادية محسوسة ولكنها صورة هشة هزيلة ضعيفة. سرعان ما تتهاوى أمام ضربات الحق في لحظة المواجهة.
وقد تعتمد الاستعارة على التشخيص وهو خلع الحياة على الأشياء الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية وتشخيص مظاهر الوجود، والمشاهد الطبيعة، يثير في النفس معاني الجمال والفن، لأن النفس تأنس بما حولها حين ترى الأشياء الجامدة، ناطقة شاخصة، ومن ذلك قوله تعالى: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ الملك: ٧، فالنار تعرض هنا حية شاخصة، تكظم غيظها، ولكنّ أنفاسها مسموعة في شهيقها وزفيرها، وحنقها على الكافرين، وغيظها منهم.
والكواكب السيارة تعرض شخوصا متحركة في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوارِ