من الاستعارة لم يلتفت إليها كثير من البلاغيين قبل الزمخشري «٣١».
ففي قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ البقرة: ٥ صورة حية، واضحة المعالم، تعتمد على تمثيل حال المهتدي في ثباته وتمكنه من الحق ولزومه إياه، بالراكب على جواد، فاستعيرت هذه الهيئة للدلالة على حال المؤمنين، واكتفى التعبير القرآني باستخدام الحرف «على» الذي يوحي بالتمكن من الشيء والثبات عليه فالحرف هنا هو الذي يكوّن الصورة المرسومة في المخيّلة، وهذا كثير في الأسلوب القرآني ومنه قوله تعالى: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ الأعراف: ٦٦، فحرف الجر «في» يفيد الظرفية، وتركيبه في هذا السياق يوحي بصورة حية للضال الذي انغمس في الغي والسفاهة حتى لا يكاد يبصر.
وهكذا لاحظنا كيف أن الصورة القرآنية، مرتبطة بالسياق، الواردة فيه، لأداء الغرض الديني من وراء التصوير ولكن الصورة القرآنية ليست صورة شكلية وإنما هي فنية متولّدة من تفاعل عناصرها، وتلاحم الشكل بالمضمون، والفكر بالشعور، والغرض الفني بالغرض الديني، وهذا ما جعلها تكتسب هذه الخصوصية المتميزة في التعبير والتصوير والتأثير الديني.
ونلاحظ هذا أيضا في الصورة القائمة على المجاز، والمجاز له أهمية في التعبير الفني، لارتباطه بالصورة وأنواعها، ولكنه أسيء فهمه حين وضع في مقابل الحقيقة، حتى أصبح للكلمة دلالة حقيقية لغوية، ودلالة مجازية فنية، عند القدماء، ولم يكتفوا بذلك بل قيّدوا الدلالة المجازية بالعلاقة والقرينة لتبقى الدلالة الحقيقية للكلمة، حماية للغة من العبث والفوضى التعبيرية.
لهذا اختلف العلماء في ورود المجاز في القرآن الكريم، بين مؤيد ومعارض، بعد أن توهم المعارضون بأن المجاز قرين الكذب، ويناقض الحقيقة، وأن اللجوء إليه دليل العجز عن التعبير الحقيقي «٣٢».
والحق أن المجاز ظاهرة فنية في كل اللغات، وهو في اللغة العربية أوضح من غيرها، لأنّ العربية هي «لغة المجاز» كما يقول عنها العقاد «٣٣»، ولكن المجاز لا يوضع في مقابل
(٣٢) المجاز في البلاغة العربية: ص ١٤٣ وما بعدها.
(٣٣) اللغة الشاعرة: ص ٢٦.