الحقيقة، وإنما هو طريقة خاصة في التعبير عن الحقيقة ذاتها وقد كانت كلمة «المجاز» تعني الطريقة في التعبير عند أبي عبيدة في أول نشأتها «٣٤»، ولكنها وضعت فيما بعد في مقابل الحقيقة عند ما وضعت القواعد البلاغية الصارمة المعتمدة على الحدود المنطقية، والتقسيمات العقلية.
فالمجاز هو طريقة فنية في التعبير عن الحقيقة، وهذه الطريقة، تثري اللغة، وتنمّيها، وتزيل عنها الرتابة التعبيرية كما أنها طريقة مثيرة لخيال المتلقي، ومؤثرة في نفسه، فهي تلفت المتلقي إلى خروج التعبير عن المألوف فتحرك خياله، وتنشط ذهنه، ليدرك العلاقات الجديدة في التعبير المجازي.
وفي بحثي هذا لن أركّز على التمييز بين نوعي المجاز (المرسل والعقلي) ولن أبحث عن العلاقة في كليهما، حتى لا أقع بما انشغل به البلاغيون القدماء حتى أضاعوا جمال الصورة الفنية التي يرسمها المجاز بنوعيه، وإنما سأركز على طريقة المجاز في رسم صور فنية.
حين عدل التعبير عن المألوف إلى تعبير تصويري، ولا يرجع ذلك إلى تقدير المحذوف حتى يصحّ الإسناد، وإنما إلى هذا التعبير الخاص المصوّر المتفاعل مع الفكرة والسياق، كما بينت في حديثي عن الاستعارة.
فقوله تعالى:... وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً نوح: ٧.
فالصورة هنا، مرتبطة بالسياق الواردة فيه، ومتفاعلة معه، لتصوير إعراض قوم نوح عن الدعوة، ورفضهم لها. فجاء هذا التجوز في الدلالة لكلمة «أصابعهم» للإيحاء بشدة إعراضهم، ومبالغتهم في ذلك إلى الحدّ غير المعقول، وهو محاولتهم إدخال الأصابع كلها في الآذان، وهي صورة تتناسق مع الصورة الأخرى اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا....
والصورة هنا تعتمد على نظام العلاقة بين الكلي والجزئي، ليظل القارئ في حركة انتقال من الجزئي إلى الكلي أو العكس، لتحريك خياله، وتنشيط ذهنه، كما أنها تخضع لنظام العلاقات السياقية الأخرى، من خلال ارتباطها بالصور الأخرى، لتتناسق معها في رسم مشهد الإعراض عن الحق، والكراهية له.