وإنما لتنقلنا إلى الوظائف البعيدة وهي (معنى المعنى) على رأي الجرجاني، أو هي المعاني المجردة كما يرى العقاد.
والوظائف البعيدة هي الأغراض الدينية المقصودة من وراء التصوير.
والوظيفة الدينية هي محور الوظائف للصورة القرآنية، فهي هدف مقصود من التصوير.
ونحن نلاحظ أن هذه الوظيفة الدينية، واضحة في الوظائف القريبة، أيضا، فالمعاني الذهنية المصورة والأمثال والطبيعة، والقصص... كلها تنطلق من رؤية دينية واضحة المعالم والسمات، فهي الرابط القوي، الذي يشد الوظائف بعضها إلى بعض، لتتفاعل وتتناسق في توضيح الغرض الديني المقصود، ضمن نظام العلاقات المعتمد في الوظائف القريبة والبعيدة للصورة، كما كان معتمدا في تشكيلها الفني، وأنواعها المتناسقة.
إن حركة نمو هذا الفكر الديني من خلال التصوير، تبدأ أولا من تصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية، ثم تزداد حركته نموا ونشاطا من خلال ضرب الأمثال ومشاهد الطبيعة، ثم يتفاعل هذا الفكر مع الأحداث الواقعة المصوّرة كما يتفاعل مع الأحداث الماضية، من خلال التصوير قصص الأنبياء، ثم يتجسّد في النماذج الإنسانية المرسومة، ثم يأخذ بعدا زمانيا ممتدا، من خلال مشاهد القيامة المصورة. فينتقل من عالم المحسوسات إلى عالم الغيب ومن المحدود إلى غير المحدود ومن المنظور لغير المنظور، ولكن هذا الانتقال ليس مفاجئا وإنما يتمّ بالتدريج من الحسي إلى الغيبي، بل إن العالم الغيبي يعدّ استمرارا للعالم المحسوس. حيث ينتقل فيه الناس بأحوالهم وسلوكهم، ليلاقوا، نتائج أعمالهم، فالعلاقة قوية بين النتائج والأسباب أو بين الآخرة والدنيا، إنها علاقة النتيجة بالسبب، والغاية بوسيلتها.
فالوظائف للصورة القرآنية متواصلة ومترابطة، لتوضيح الحقائق الدينية المطلوبة، من وراء الصور المحسوسة فيتضح في الوظائف البعيدة المرتبطة بالوظائف القريبة، طريقة بناء الإنسان، فكرا وشعورا وسلوكا، من خلال رؤية إسلامية، مجسّدة في الصورة الفنية.
وبعد هذا التمهيد، يمكننا الآن أن نبدأ بدراسة الوظائف القريبة للصورة، لأنها وسيلتنا للوصول إلى الوظائف البعيدة.