تفسير قوله تعالى: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب)
يقول تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١].
يحمد الله جل جلاله نفسه، وقد ابتدأ تعالى الخلق بالحمد، وأنهاه بالحمد، وافتتح كتابه القرآن الكريم بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الفاتحة: ٢]، وختم أمر الجنة بقوله تعالى عن أهلها: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ١٠].
وابتدأ هاتين القصتين بحمد نفسه جل جلاله، فله الحمد كله، وإليه يرجع الحمد كله، وإذا حمدنا زيداً من الناس أو عمراً فإنما نحمده ظاهراً ومجازاً، وإنما الحمد لله الذي شرح قلب هذا الذي عمل عملاً يخدمك به، أو يقدم خدمة للناس، أو للإسلام، أو في أي شيء كان، فالحمد الخالص الكامل لله، فنحمده على أن هدانا للإسلام، ونحمده على أن وفقنا لاتباع نبيه عليه الصلاة السلام، ونحمده على أن عافانا في أبداننا وأرواحنا، ونحمده على أن أكرمنا بأن أغنانا عن الناس، فلم يُرق ماء وجوهنا لأحد سواه، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: ٣٤]، فالحمد لا ينقطع، والنعم لا تنقطع، وبالحمد والشكر تزداد النعم، والكفران يسلبها.
فالله تعالى هنا يحمد نفسه ويعلمنا أن نحمده وأن نشكره، وأن نؤدي الحق لأهله، فيقول: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الكِتَاب﴾ [الكهف: ١].
وعبده هنا هو محمد سيد الخلائق، سيد الأولين والآخرين، خاتم الأنبياء والرسل، عليه صلوات الله وسلامه.
فالله يحمد نفسه، ويعلمنا أن نحمده على أن أنزل هذا الكتاب المهيمن على كل الكتب، الجامع لكل ما مضى من خيرات وافرات، وهداية دائمة، وصلاح في الدنيا والآخرة، فهو الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢]، وهو الكتاب المعجز الذي فيه خبر من قبلنا وخبر من بعدنا.
فهذا الكتاب الذي جعله الله خاتم كتبه خص به عبده وسيد عبيده محمداً صلى الله عليه وسلم.
والكتاب إذا أطلق يراد به القرآن الكريم، فهو كتاب جميع المسلمين، وكتاب جميع العلماء، وهو الكتاب الذي فيه ما ينفعنا معاشاً، وما ينفعنا معاداً، وهو الذي جمع كل العلوم.
وإذا أطلق الكتاب بين أهل اللغة والأدب والنحو فالمراد به كتاب سيبويه في النحو وقواعد العربية.
قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا﴾ [الكهف: ١]، فلم يجعله ناقصاً، ولم يجعله مخالفاً، ولم يجعله غير معجز، ولم يجعل فيه تناقضا.
والعوج يكون في المحسوسات والمعاني، يقال: فلان أعوج الخلق، أي: فيه اعوجاج عن الحق، واعوجاج عن الطريق المستقيم، ويقال: البناء فيه عوج، أي: فيه اعوجاج في هندسته وفي نظامه.
وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾ [الزمر: ٢٨]، أي: فلا نقص فيه، ولا شين، ولا تناقض.


الصفحة التالية
Icon