تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤] يقول الله جل جلاله لتبقى الحجة البالغة له: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ﴾ [الكهف: ٥٤]، أي: بينا وأوضحنا بتفصيل وإجمال، بياناً واضحاً بليغاً فصيحاً مفصلاً في كل الجزئيات والكليات، ورزقناكم عقولاً للفهم، وأسماعاً للسماع، وأبصاراً للنظر، ورسلاً مبشرين ومنذرين ومعلمين، وخلفاء للرسل، من علماء منوعين، في علم القرآن وعلم الحديث وعلم اللغة، وجميع علوم الإسلام.
وقد صرف الله في كتابه بين مختلف الألفاظ والمعاني، والله جل جلاله طالما قص القصة ونوعها وذكرها في سورة بلفظ وفي أخرى بمعنى، وجمع أطرافها تارة، وذكرها مجزأة تارة، وكل ذلك لنفهم، والشيء -كما تقول القاعدة العربية- إذا تكرر تقرر، وهذا سر التكرار، وإن كان لكل تكرار معنى قائم بنفسه.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ﴾ [الكهف: ٥٤]؛ لأنه نزل على رسول الله ﷺ ليبلغ كل الناس، ولكن اهتدى من آمن، وأبى الضلال من أشرك.
وقد صرف الله في هذا القرآن للناس من كل مثل ومعنىً وحكم ومثال، وصرف فيه من الحلال والحرام والعقائد والقصص وتاريخ الماضين والآتين والحاضرين، ما ترك شاذة إلا وذكرها، قال تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨].
وها نحن الآن نعيش في القرن الخامس عشر -ولا أقول القرن العشرين، فمالي ولتاريخ النصارى، فلا يهتم به إلا من خذله الله- الذي يزعمونه عصر علم وحضارة، وما هو إلا عصر فجور وفسوق ويهودية وعري وبعد عن الله، ومع ذلك فكل ما تجدد في العصر مما لم يكن يخطر ببال فإننا نجده في كتاب الله، قاله الله جل جلاله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، وفصله وبينه أصحابه والتابعون أئمة الهدى كـ أبي حنيفة ومالك وأحمد والشافعي والأوزاعي والليث جزاهم الله عنا جميعاً خير الجزاء.
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤] وصدق الله العظيم، فمع هذا الحق البين الواضح نجد من أضله الله وسلبه عقله قبل أن يسلبه دينه، يجادلك بالباطل وبالهراء، وأنت تتعجب وتتساءل: هل يقول هذا الكلام قائل؟ ولكنه الجدل.
وفي صحيح البخاري ومسلم: (أن رسول الله ﷺ طرق يوماً غرفة ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما فقال: ألا تصلون؟ وإذا ب علي يجيبه وقد استيقظ: إذا شاء الله أن يبعثنا بعثنا وصلينا، وإذا برسول الله عليه الصلاة والسلام يدبر، وإذا بـ علي يسمعه يقول وهو مدبر: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤]).
وإذا قيلت هذه لمثل علي وفاطمة فكيف بغيرهما؟ فالمؤذن أذن، وهما قد استيقظا، وطرق عليهما بابهما، وهما يسمعانه، ففيم الجدل؟ قال تعالى: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: ٥٤] ولا يجادل في الحق واليقين، والتوحيد والرسالة إلا من سلبه الله عقله، ولا يجادل في كتاب الله إلا من لعنه الله وأخزاه.
وأما من يطلب العلم ومزيد المعرفة والاستدلال؛ أو ليعلم غيره فليس من هؤلاء، ونقول له: قل الحق بالمنطق والعقل وبالبرهان القاطع كما ذكره الله، وهذا لا يجادل فيه إلا مجنون أو من غطى الله تعالى على قلبه بالران.