تفسير قوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً)
قال تعالى: ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النور: ٣٣].
فإن كان ولا بد وكان العذر لهؤلاء هو الفقر، فمن لم يكن كذلك مكفياً فليستعفف وليطلب العفة بألا يزني ولا يفسق: لا بعينه، ولا بأذنه، ولا بيده، ولا بفرجه، وقد كتب الله الزنا في العين، فإذا ما رأت ما لا يحل لها فقد زنت، والأذن إذا أنصتت لما لا يحل لها فقد زنت، واليد إذا باشرت ما لا يحل لها من بشرة محرمة فقد زنت، وهكذا تجد هذا الذي لا يتزوج تعللاً بالفقر لا يكاد يخلو من الزنا يومه كله، فينظر لأعراض الناس في الطرق والأزقة، ويسمع لغناء النساء ورخامة أصواتهن وفحش قولهن، ويمد يده مصافحاً لمن لا يجوز له أن يصافحها، وهكذا تجده يومه كله في مخالفة وعصيان لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وابتعاد عن أخلاق المؤمنين.
فقوله تعالى: ((وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)) السين والتاء إذا دخلت الفعل فهو للطلب، أي: ليطلب العفة، فهؤلاء الفقراء إن أصروا على عدم الزواج للفقر فليكونوا عفيفين عن النظر والسمع والزنا والفرج فيما لا يحل لهم؛ عسى الله أن يغنيهم ويكفيهم، فإن الله قد تعهد بذلك من قبل، وكلمة النكاح إذا أُطلقت تعني الزواج، وقل ما تعني الجماع.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا)) هذه الفقرة من الآية تتعلق بحكم آخر كبير الشأن، هذا الحكم يتعلق بتحرير العبيد الأرقاء قبل أن يدّعي هؤلاء الأعداء اليوم أنهم قد أعتقوهم وأوجبوا ذلك، فأعتقوهم أفراداً واستعبدوهم شعوباً وأمماً، استعبدوهم للبطش والذل والهوان والاسترقاق، وأنتم ترون وتسمعون كل حين كيف أن أمم الكفر أطلقت كلب الصيد اليهود فكانوا كلاباً وقردة وخنازير، لضرب المسلمين براً وبحراً وجواً، فيريقون الدم الحرام، وينتهكون العرض الحرام ويستذلون ويقتلون ويستعبدون، وكأن الدنيا لم يبق فيها مسلم، ولم يبق فيها من يدّعي ويزعم الدفاع عن ما يسمونه إنسانية أو آدمية أو بشرية، وهكذا لا نزال نجد أمم الكفر قد تواطأت وتآمرت على إذلال الإسلام والمسلمين، بل حتى المسلمين تواطئوا على أنفسهم ليذلوا أنفسهم ويستعبدوها، وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [المائدة: ٥١]، فنحن قد رأينا ولا نزال نرى جميع أمم الكفر والنصرانية في الأرض كيف والوا اليهود وناصروهم وعزّزوهم وعزّروهم وملّكوهم من الأسلحة والأموال والدفاع والكفاح؛ ليذلوا المسلمين، وليذهبوا وجودهم من المشرق العربي؛ إعادةً للصليبية الأولى، وحقداً على المسلمين وعلى دين الإسلام.
قال تعالى: ((وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ)) (والذين يبتغون) أي: الذين يريدون، والكتاب: المكاتبة، (مما ملكت أيمانكم) من عبيدكم وأرقّائكم رجالاً ونساء، ((فَكَاتِبُوهُمْ))، ومعنى الكلام: إذا جاءكم أيها السادة والموالي عبيدكم وأرقاؤكم وجواريكم وفتياتكم فطلبوا منكم أن يعقدوا معكم مكاتبة في تحريرهم وشراء أنفسهم فافعلوا وكاتبوهم، والمكاتبة في لغة الرق والأرقّاء: أن يأتي الرقيق ذكراً كان أو أنثى فيقول لمولاه: كاتبني، أي اكتب بيني وبينك عقداً أؤدي لك قدراً من ثمن، أو أؤدي لك ما يمكن أن أتفق وإياك عليه خلال فترة معينة.
وهذه الفقرة من الآية الكريمة تدعو إلى تحرير العبيد منذ ١٤٠٠ عام نزل بها الوحي الكريم على سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك قبل أن يدّعي هؤلاء الأرذال إخوان القردة والخنازير أنهم حرروا العبيد، فحرروهم أفراداً فيما زعموا واستعبدوهم شعوباً وأمماً.
ومعنى ذلك: أن العبد إذا أراد حريته والجارية إذا أرادت حريتها فأعطوها إياه مقابل ما صرفتم من مال يؤدونه إليكم، يقول عمر: يجب على كل مولى وسيد إذا رغب مولاه -عبده أو جاريته- في المكاتبة على قدر من المال من ثمنهما، إن يفعل.


الصفحة التالية
Icon