اختلاف المفسرين في قوله تعالى: (مثل نوره)
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ﴾ [النور: ٣٥] إن قلنا: مثل نور الله كمثل مشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، فكل ما ذكرنا ليس إلا جزءاً صغيراً من خلق الله، والنور قد عمّ من أول الآية بقوله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) فكيف هذا النور أصبح أشبه ما يكون بالمشكاة وبالمصباح وبالكوكب، وليس ذلك إلا جزءاً صغيراً من نور الله الأعظم؟! ومن هنا اختلف المفسرون في قوله: ((مَثَلُ نُورِهِ)) هذا الضمير يعود لمن؟ فقال جماعة: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: نور هدايته الذي يصيب المؤمن نبياً وملكاً وعالماً ومؤمناً بصفة عامة، والبعض قال: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: نور محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى هذا الضمير لغير مذكور، والنبي لم يذكر في هذه الآية ولا في قبلها، وكيف تعود الضمائر لغير مذكور! والبعض قال: عبد المطلب، ثم عبد الله، ثم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن هذه أضواء تسلسلت من مشكاة، إلى مصباح، إلى زجاجة، إلى كوكب دري.
وقال البعض: الضمير يرجع إلى إبراهيم، فإبراهيم كان المشكاة، وإسماعيل كان المصباح، ومحمد ﷺ كان السراج وكان الكوكب وكان الضوء الذي يشتعل ويوقد من الزجاجة؛ ولكن كل هذا لا ذكر له في الآية قبل، وكلها ضمائر تعود لغير مذكور، وجاء ابن العربي المعافري الأندلسي وقال في كتابه (أحكام القرآن): لا يصح أن تعود هذه الضمائر إلى غير مذكور، والضمير يرجع لله، ونور الله: هدايته، ونور الله ما أرسله للبشر من أنبياء ومرسلين؛ هدايةً للضالين، ونوراً لزوال الظلمات وتبديدها، أي: مثل نور الله أعاد الضمير إلى الله جل جلاله، فقوله: ((مَثَلُ نُورِهِ)) أي: مثل ما هدى به البشر ودعاهم للتوحيد ولعبادة الله وللإيمان برسل الله ((كَمِشْكَاةٍ)) فالنور أصبح مشتعلاً وهاجاً كأنه القنديل المعلّق، والقنديل المعلّق فيه سراج ومصباح ينير ما حواليه، وهذا المصباح من زجاجة، والزجاجة عندما يكون فيها الضوء تكون أكثر ضياء وإنارةً وإشعاعاً، وهذه الزجاجة في ضيائها وقوتها كأنها الكوكب الدري، أي: شديدة النور واللمعان والضياء، وبهذا نفسّر وهكذا نعتقد: أن مثل نور الله، أي: مثل هدايته للبشر: بأن هدى به عباداً للنبوة وللرسالة، وأنزل عليهم رسول الملائكة جبريل عليهم السلام، فهداهم ودعاهم إليه، وهم بدورهم دعوا البشر لذلك، فكانوا مشكاة ومصابيح وسرجاً، وكانوا كواكب نيّرة، وبهذا تبقى المعاني صالحة وطيبة، ويؤكد هذا أن الله وصف نبيه في كتابه بأنه سراج منير، أي: سراج مشع وهاج منير للخلائق، ولا نزال نعيش في نور هدايته ونور رسالته ونور الكتاب المنزل عليه ونور سيرته الزكية الطيبة العطرة صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: ((يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ)) أي: يوقد من شجرة كثيرة النماء والخيرات، وهي الزيتون، قال تعالى: ((شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ))، والزيتونة كلها نفع: ورقها وجذورها وأخشابها، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الزيت: (الزيت ادهنوا به وكلوه) وهو زيت الزيتون، فهو يعتبر إداماً وطعاماً ودواءً وإضاءةً ونوراً، فما كان أسلافنا قبل اختراع الكهرباء يستضيئون إلا بالزيت.
قال تعالى: ((لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)) وكذلك في كلمة شرقية وغربية اختلفوا اختلافاً طويلاً عريضاً، فقالوا: ((لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ)) نبتت في مكان لا تحتجب عنها الشمس لا صباحاً ولا مساءً، فهي بهذا ليست شرقية وليست غربية، وقال بعضهم: زيتونة شامية، والشام تعتبر لا من الشرق ولا من الغرب.
قال تعالى: ﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ﴾ [النور: ٣٥] من صفاء زيته وشدة نوره وصلاحه يستخدم وقوداً للإنارة، فيكاد هذا الزيت ينير قبل أن يوقد.
قال تعالى: ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] أي: أنوار المصباح إلى أنوار الزجاجة إلى أنوار الكوكب الدري إلى أنوار الزيت الصافي كله نور على نور، ومن قال: إن النور نور نبينا عليه الصلاة والسلام قال: هو من إسماعيل، وإسماعيل نور، وإسماعيل بن إبراهيم وإبراهيم نور، فهو نور من نور إلى نور، ثم هم جميعاً أنبياء، والنبوءة نور مشرق على الناس تبدد ظلماتها.
ومن قال: إن الضمير عائد إلى الهداية إلى الله، فالله جل جلاله هدى قلوب المؤمنين، فكان النطق نوراً والقلوب نوراً والأعمال نوراً، فيعيشون من نور الهداية، ويدعون بنور الهداية، ويذهبون إلى ربهم إلى نور رضاه ومغفرته ورحمته، فالله ضرب هذا المثل؛ ليكون أكثر إنارة في الهداية.
ولذلك لم يبق إلا ضرب المثل بالهداية، وبكتاب الله وبما يصدر عن نبينا من نور ينير قلوب العباد جناً وإنساً، وكون الشجرة لا شرقية ولا غربية، قالوا: هي في أرض تشرق عليها الشمس صباحاً ومساءً قالوا: هي الشام فلا هي بالشرقية ولا هي بالغربية.
ولكن سيد التابعين الحسن البصري قال: لا توجد في الأرض إلا شجرة شرقية أو شجرة غربية، وما أظن إلا أن هذه الشجرة التي ضرب الله بها المثل هي من شجر الآخرة.
ونقول اعتماداً على أن القرآن فيه نبأ ما قبلكم ونبأ ما بعدكم: ذكرت هذه الآية وهذا النور نور الكهرباء الذي لم يكن معروفاً يوماً ولم يخطر ببال أحد، إذ كان مجهولاً والكلام عليه سابق لأوانه، والحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وهكذا الآي الكريمة والأحاديث النبوية ما نزل منها لمستقبل الأيام وما نطق به النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بما يستقبل من الأيام لا تكاد تفهم إلا وقت وجودها، ونحن عندما نقول: نور في مشكاة في مصباح في زجاجة نرى هذا الضوء الكهربائي، فنجد هذا المثال مطابقاً له تمام المطابقة، فنحن نصف هذا ونقول: هو نور ليس شرقياً ولا غربياً يوقد من شيء لا من شجر شرقي ولا من شجر غربي، ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ﴾ [النور: ٤٣].
ولو أن هذه الأضواء ونحن في بيت الله الحرام أطفئت لكنا جميعاً في ظلمات، إذا أخرج أحدنا يده لم يكد يراها، فإذا هي أشرقت عمَّ المسجد بالأنوار وكذلك البلدة، فالله ضرب مثل نور هدايته ودينه ومثل النور الذي أرسل به أنبياءه كمثل نور ضياء مصباح لم يكن قد ظهر بعد، ولكنه سيأتي في مستقبل الأيام.
والحسن البصري صدق حين قال: هذه الشجرة لا توجد في الأرض، إذ عندما قال ذلك لم تكن الكهرباء بعد معروفة، ولم يكن يخطر ببال أحد قط ذلك، وهذا الضوء يشتعل وينير ولو لم تمسسه نار، فهانحن نراه قد أنار بلا زيت ولا إيقاد، إنما هي أشياء عنصرها الزيت: سالب وموجب، ماء وحرارة، وكان من أعظم مخترعات هذا العصر ومبتكراته هذه الكهرباء، فلو سلطنا على المسجد الآن أو أي مكان أكثر اللمبات ضياءً ونوراً لما كاد البصر أن يراها، خاصة أن (اللمبة) تشتمل على ١٠٠٠، ومن اللمبات ما تشتمل على ٥٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠، ونحن نرى الضياء الذي إذا سلط على العين لا تكاد تبصر، ويكاد السنا يذهب بالبصر، والآية قد نزلت منذ ١٤٠٠ عام، والأمر كما قال تعالى: لا هي بالشرقية ولا هي بالغربية، زيتها وضياؤها يكاد يشتعل بدون وقود.