تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض)
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور: ٤١].
ألم ترَ يا محمد! وهو المكلف بالأصل، وهو أول المسلمين، وأول المؤمنين برسالته، وذلك قبل أن يؤمن بها غيره، ألم ترَ يا محمد! والرؤية هنا رؤية علم ورؤية بصيرة، ورؤية عقيدة، وفي معنى ذلك: ألم ترَ أيها المسلم! ألم ترَ أيها المؤمن! أن الله يسبح له ويدعوه ويعبده ويوحده السماوات ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، حتى الطير المصطف في الأجواء وفي السماء، ولذا كان الجماد خيراً من هؤلاء الكفار، وكان الطير خيراً منهم، وكان الحيوان خيراً منهم، فهم كالأنعام، بل قال الله وأضرب عن الكلام الأول: ﴿بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الأعراف: ١٧٩]، أي: أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تسبح الله، وتوحد الله، ويوحد الله الملك والجن والإنس ممن أنار الله بصائرهم، والحيوان والطير، وحتى الجماد والجبال، فتسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الإسراء: ٤٤] كما قال ربنا وكرر وأعاد ليستقر في الأذهان: أنها تسبح له السماوات السبع ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، يسبح له كل مخلوق عاقل ملكاً وجناً وإنساً، وكل الطير، وكل الحيوانات، وحتى الجماد: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ﴾ [الإسراء: ٤٤] (من) إذا دخلت على النكرة على قواعد اللغة العربية فإنها تدل على العموم، أي: كل شيء، وهو ما في هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ [النور: ٤١]، فالسماوات ومن فيها، وفيها الملائكة، وفيها كثير من خلق الله، والله أعلم بحقائقهم، وتسبح له الأرض، الأرضون السبع ومن فيها: من إنس وجن، وبهائم وحشرات، لكن هنا نجد الكافر، ونجد الإنسي والجني عندما يشرك بربه فكل شيء أشرف منه، وكل شيء أكرم منه، حتى الجماد وحتى الحيوان وحتى الطير: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ﴾ [النور: ٤١]، فيسبح له من في السماء ومن في الأرض، ومن بين السماء والأرض كالطير، فالطير عندما تكون أجنحتها مصطفة في الأجواء هي كذلك تسبح ربها، وهي إذ ذاك ليست في الأرض، وليست في السماء، ولكنها في الأجواء والفضاء، فهي تذكر الله، ومن هنا ينبغي للمسلم عندما يركب الطائرات في الأجواء إذا دخلت أوقات الصلاة أن يصليها وهو في الأجواء، والطائرة تعتبر مدينة مستقرة في مكانها، فليؤذن للصلاة، وليقم الصلاة، وليصلها جمع تقديم أو جمع تأخير، حسب الأوقات التي هو فيها، وينبغي أن يتلو كتاب الله، وأن يذكر الله بكل ما ألهمه الله، وبكل ما فتح عليه به، ولا يليق أن يعتبر الطير خيراً منه عبادة، وخيراً منه طاعة، فالطير تعبد الله وهي في الأجواء، فالإنسان أولى منها بذلك، وهو الذي خلقت له السماوات والأرض ليعبد ربه، وليتمتع بما متعه الله به، فإن كان عن إيمان فذلك له حق حلال، ولنعم الله يوم القيامة أجمل له وأكمل وأدوم.
قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾ [النور: ٤١] وإذا كنا لا نعلمها فالله يعلمها، فيعلم صلاة المصلي من خلقه وعباده: من ملائكته وجنه وإنسه، ويعلم تسبيح الطير، وتسبيح كل شيء، وكل يسبح بما ألهمه الله، فالطير وهو صاف جناحه في السماء هو في هذه الساعة أيضاً يسبح الله، وتسبيحه عبادته، وتسبيحه تقديسه، وتسبيحه تمجيده، وتسبيحه توحيده، فهو إلهام ألهمه الله إياه، ومن هنا كان الكل أشرف وأكمل وأصلح وأتم من الإنسان الكافر والجني الكافر.
قال تعالى: ﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ﴾ [النور: ٤١] التنوين هنا تنوين عوض عن كلمة، والتقدير: كل موجود، فكل من في السماء ومن في الأرض قد علم الله جل جلاله صلاته وعبادته له، وتسبيحه له، وذكره له جل جلاله، و (من) في لغة العرب تطلق عادة على العاقل، و (ما) في لغة العرب تطلق عادة على غير العاقل، تقول: من في الدار؟ أي: من الرجال أو النساء العقلاء الذين في البيت؟ فإن كان في البيت هوام ودواب وطير قلت: ماذا في البيت؟ فإذا اجتمعا غلب أحياناً العاقل على غير العاقل، وأحياناً غير العاقل على العاقل، وهنا في الآية هذه وما بعدها غلب العاقل على غير العاقل: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور: ٤١]، وفي الأرض عاقل وغير عاقل، فغلب العاقل على غيره.
﴿كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ [النور: ٤١] عليم بفعل عباده، عليم بفعل خلقه: أناسي وملائكة وجناً وطيراً وحيواناً ودواباً وحشرات، علم عبادتهم، وأدرك عبادتهم، وجازاهم عليها، فجازى المؤمن بإيمانه، وجازى الكافر بكفره، وأحسن إلى هؤلاء بأن متعهم زمناً؛ متعهم بالعيش وبالعافية، لكن هؤلاء لم يخلقوا إلا للدنيا وانتهوا.