تفسير قوله تعالى: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وما أولئك بالمؤمنين)
﴿وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٤٧].
يتكلم الله عن قوم كان منهم في العصر الأول منافقون، والكلام عندما يكون له سبب فذلك السبب ليس إلا سبباً للنزول وإلا فالعبرة دوماً واستمراراً في كتاب الله وسنة رسوله العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وما أشد تطبيق هذه الآية علينا، فاليوم وما قبل اليوم وإلى ما بعد اليوم يقول تعالى عن طائفة من أدعياء الإسلام: ﴿آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا﴾ [النور: ٤٧] يقول: نحن مسلمون آمنا بالله رباً وإلهاً، وآمنا بمحمد نبياً ورسولاً، وماذا يكون بعد ذلك؟ ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [النور: ٤٧] يتولى فريق -من هؤلاء الذين يقولون: آمنا بالله وبرسوله وأطعنا- ويعرضون ويبتعدون ويستنكفون عن الإيمان حقاً وعن الطاعة حقاً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٤٧].
ونحن اليوم نجد أن الشعوب الإسلامية والدول الإسلامية يقولون: نحن مسلمون جميعاً، وإذا قلت له: اسكت يا كافر! أو يا زنديق! لقام في وجهك قيام الضواري والحيوانات المفترسة، وهم مع ذلك يتحاكمون بغير كتاب الله ويتحاكمون بغير سنة رسول الله، فأنت تقول لهم: كيف تقولون: نحن مؤمنون بالله ومؤمنون برسول الله، ثم لا تطيعون بعد ذلك؟! فالإيمان بالله له فرع والإيمان بالرسول له أثر، فالإيمان بالله يلزم من ادعاه أن يكون مطيعاً لكتاب الله، ممتثلاً للأوامر، مجتنباً للنواهي، والمدعي للإيمان برسول الله يجب أن يكون مطيعاً له فيما أمر، ومجتنباً لما نهى عنه وزجر، وإذا زعم أنه مطيع لله ورسوله، فقل له: أين الطاعة؟ أنت تهمل كتاب الله حكماً وقانوناً: في الشارع في الدولة في الجيش في المعاملة في جميع شئون الحياة، وتحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير ما أنزل الله، وتنشر الكفر أشكالاً وألواناً، فالله تعالى يقول عن هؤلاء الذين يصنعون ذلك بعد أن ادعوا الإسلام وقالوا: إنهم مؤمنون بالله وبالرسول ﷺ ومطيعون لهما، قال الله عنهم: ﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [النور: ٤٧]، بعد دعواهم الإيمان والطاعة، قال تعالى مكذباً لهم: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٤٧] أي: هؤلاء الذين يدعون الإيمان والطاعة ليسوا من المؤمنين؛ لأن الإيمان له شروط، والإسلام له قواعد وله ضوابط، وقد قال تعالى في كتابه: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤]، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٧]، ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: ٤٥] وهل بعد كلام الله كلام لأحد؟ وهذا من ذاك، فتجده يدعي الإسلام والإيمان والطاعة وقد يصلي وقد يصوم، وإذا به عند الحكم وإذا به عند التعليم وإذا به عند التصرف تجده قد أباح الزنا بأنواعه، وأباح الربا بأنواعه، وأباح إلغاء الحدود بأنواعها، وكشف الأعراض، وأخرج النساء عراة في الشوارع، وملأ المدارس والجامعات بغير كتاب الله، وبغير سنة رسول الله، وبغير القرآن الكريم، وبغير مذاهب الأئمة الذين استنبطوا فقههم من كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، فكيف بهؤلاء أن يدعوا بأنهم مطيعون مؤمنون؟! ولذلك أكد الله فقال عنهم: ﴿وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: ٤٧].
وليس بعد كلام الله كلام، وإذا أرادوا أن يكونوا مؤمنين فليتوبوا إلى الله من كذبهم، ومن عملهم للباطل، وتركهم لكتاب الله وسنته، وليس هذا خاصاً بالمنافقين وإن كانوا سبباً في نزول الآية، بل إن الكفار في عصرنا هم السواد الأعظم ممن ألغوا كتاب الله عملاً وحكماً وآداباً، وألغوا سنة رسول الله ﷺ حكماً وتعليماً وآداباً، إلا قلة أبعدت عن الحكم وأبعدت عن القضاء وأبعدت عن التوجيه والتفسير، وهذه القلة مع ذلك لا تزال موضع الأمل وموضع الرجاء، وهي الدليل الناطق لتحقيق قول نبي الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم إلى يوم القيامة).


الصفحة التالية
Icon