تفسير قوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون)
سيبقى الحق حقاً إلى أبد الآباد، ولن يضره خذلان المنخذلين أو كفر الكافرين، وسيبقى الباطل باطلاً ولو تكاثر المتمسكون به، والدعاة إليه، والعاملون به، فهو هباء منثور، والباطل باطل لا يفيد بل يضر، وهؤلاء من خصائصهم: أنهم إذا دعاهم علماؤهم الصادقون ورثة النبي صلى الله عليه وعلى آله صاروا كما قال الله: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨].
أي: إذا دعي هؤلاء من قبل العلماء أو بعض المؤمنين الصالحين إلى الإيمان بالله عملاً لا مجرد القول، أو إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وعلى آله عملاً لا قولاً، وليحكم بينهم كتاب الله، ولتحكم بينهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولتكون دعواهم صادقة، كانت النتيجة الإعراض: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨].
ولماذا قال: ليحكم؟ أي: ليحكم الله بكتابه، فهو يرجع لهما معاً: ليحكم الله بكتابه وليحكم رسوله بسنته صلى الله عليه وعلى آله، فإذا فريق منهم وطائفة يعرضون عن ذلك، أي: الحكم بكتاب الله، أو الحكم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعرضوا عن الفقه والعمل به.
وقول الله صريح ودليل على أن الإسلام سيبقى خالداً إلى يوم القيامة، فإن الكل لم يعرضوا عن كتاب الله، ولم يعرض الكل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يترك الإسلام كل الناس، بل إن دين الله سيبقى وإلى أبد الآباد خذله من خذله وحاربه من حاربه، وسيبقى الحق منصوراً مبصراً، وستبقى هذه المصابيح والسرج التي تنير أوساط المسلمين وتنير بلادهم، فالمسلمون الآن في ضعف وغداً في قوة، وليس شيء يدوم سوى الله، وهكذا علمنا تاريخ الإسلام في أحقاب ودهور مضت، فكم من حروب طاحنة مرت على المسلمين ثم كانت العاقبة لجند الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد حاولوا في عصر الصحابة أن يقتل من الصحابة الكثير، وأن يوقف الزحف الإسلامي في فتح العالم، وطال ذلك واستطال وتولاهم منافقون ادعوا الإسلام، وكاد الإسلام يذهب، وأخذ الرومان في الزحف حتى أوشكوا على الوصول إلى العواصم، وإذا بالله ينصر دينه، ويذهب من فعل ذلك، ويزيد الإسلام انتشاراً، ثم بعد وقت تأتي الصليبية فتحتل نفس الأرض المحتلة اليوم ويبقون فيها أكثر من مائة سنة، وتنزل الجيوش إلى ينبع، وتنزل في الحجاز، وتأخذ طريقها إلى المدينة المنورة، وإذا بالله الكريم ينصر دينه، فيسحق أولئك ويرمون في البحار في بطون الحيتان والمقابر، ويعود الإسلام أقوى مما كان، وينتشر أكثر مما كان.
وهكذا في القرن التاسع الهجري يزحف بالإسلام وينتشر ويدخل أقطاراً ما سبق له أن دخلها، فقد فتحوا القسطنطينية التي كانت مكمن النصرانية في الشرق، ويتحقق بذلك ما أخبر به المصطفى عليه الصلاة والسلام في قوله: (رأيت أمتي ملوكاً على الأسرة أو كالملوك على الأسرة، يفتحون مدينة نصفها في البر ونصفها في البحر يقال لها: القسطنطينية)، وتصبح بعد ذلك عاصمة للإسلام سبعمائة عام إلى أن ارتد من ارتد وخزي من خزي وتزندق من تزندق، وأخذ الإسلام يتقلص، فسلط عليهم الاستعمار الأوروبي والاستعمار الأمريكي والاستعمار الروسي، ولكن بعد أن استقل المسلمون لم يحمدوا الله على نعمه، ولم يشكروه على آلائه، وإذا بهم يسلط عليهم الاستعمار اليهودي، وقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا﴾ [مريم: ٨٣]، وما ذاك إلا عقاب الله تعالى، وكأنها لطمة سكران عندما يشتد سكره لعله يفيق ويعود، وسيعود المسلمون وسيسحق اليهود سحقاً هم وأنصارهم ومن خلفهم من المنافقين الذين يتخللون أوساطنا، أو من اليهودية الدولية أو الصليبية العالمية، وقد قال بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (تقاتلكم يهود فتقاتلونهم فتنتصرون عليهم، حتى يقول الشجر والحجر والمدر: يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله).
ولم يكن هؤلاء يوماً أقوى ولا أشمل ولا أكثر من الصليبيين قبلهم، ثم هم لا يتجاوزون كلاب الصيد اصطادت بهم الصليبية في هذا العصر بعد أن وجدت المسلمين في ضعف وتشتت، وكذلك ما هم فيه من ترك لكتاب الله وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فسلطوا عليهم لا لقوتهم ولكن لشتات المسلمين وضياعهم، وستكون هذا تربية صعبة رادعة، وسيكون العود بعد ذلك لله ولكتاب الله، ولقيادة سيد البشر محمد صلوات الله وسلامه عليه.
﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨]، وهكذا يبقى دائماً الذي يعرض ويكذب، فهو فريق من الناس وليس كل الناس، فالإسلام كان وما يزال شمساً مشرقة في رابعة النهار، وقد قال الله بشأن حفظ دستور الأمة: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩]، ومن حفظ القرآن حفظ بيانه وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والمستنبطات كذلك من الفقه الإسلامي، واللغة التي بها نزل القرآن، بل إنه يوجد في هذا العصر حركات في جامعات وفي أقطار عربية شرقية تجمع فقه الصحابة، وفقه آل البيت، وفقه التابعين، وقد صدر من ذلك الكثير الطيب بما يعد ميزة لهذا العصر، وإن كان هذا قد حصل في التاريخ، فقد ذكر: أن ابن مفوز من أعلام الأندلس جمع فقه الحسن البصري، وجمع فقه ابن شهاب الزهري، ولكنه ضاع مع ما ضاع من تراث الأندلس وعلوم الأندلس وخزائن الأندلس.