تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه)
قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفرقان: ٤ - ٥].
هذا أول طعن في كتاب الله قاله الكفرة الأولون، ولا يزال يقوله الكفرة الجدد في كل عصر، (وقال الذين كفروا) أي: المشركون الكافرون الجاحدون، قال هؤلاء: (إن هذا إلا إفك)، (هذا) إشارة للقرآن، و (إن) بمعنى: ما النافية، أي: ما هذا القرآن (إلا إفك) أي: إلا كذب ليس من الله، ولم ينزله الله؛ لأنهم لا يؤمنون بالله، ومن هنا كان الله ابتدأ السورة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] هو الذي أنزله ولم يخترعه محمد، ولم يخترعه معه أحد صلى الله عليه وعلى آله، بل هو كلام الله الواحد.
قوله: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ﴾ [الفرقان: ٤] أي: ليس إلا كذباً افتراه وولده واخترعه وأعانه عليه قوم آخرون، ومن الذي أعانه؟ قالوا: كان في هذه البلدة حداد أعجمي لا يكاد يبين، وكان في الطائف عبد رومي لـ عتبة وعتيبة ابني شيبة، كذلك كان لا يكاد يستطيع الكلام بالعربية فضلاً عن أن يأتي بقرآن بمثل هذه البلاغة والإعجاز، وقالوا: هؤلاء أعانوه، ثم قالوا: اليهود الذين كانوا في المدينة أعانوه، واليهود حاربوا النبي وألبوا على النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هم أعجز من أن يقولوا هذا، وكيف يعينونه ولا يؤمنون به ويحاربونه عليه؟ وقد رأينا شعر الشعراء منهم، وقول الكاتبين منهم، هيهات أن يقولوا مثل هذا من قريب أو بعيد! ولكنه الكفر عندما يستولي على النفوس والقلوب، وينطق اللسان بالظلم والكفر والإفك، وهذا الكلام هو الذي لا يزال يقال إلى الآن، فلا تجتمع بيهودي إلا ويقول هذا، ولا بنصراني إلا ويقول هذا، أو بمرتد يزعم أنه مسلم إلا ويقول هذا، من استولى على عقولهم الكفرة من اليهود والنصارى وجامعاتهم، فيشككون المسلمين في صدق القرآن وصدق نبوات نبينا صلى الله عليه وسلم، ويقولون عن أنفسهم: تقدميون، وهم رجعيون! هذا الكفر قد ذكر منذ ألف وأربعمائة سنة، فهم يرجعون إلى هذا الكفر، ويكررون هذا الكفر، فمن المجدد إذاً؟ المجدد هو المسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يقول: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وقال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على كل رأس مائة سنة من يجدد لها دينها) فسماه المجدد، وهكذا التجديد: هو الإسلام، والمجدد هو المسلم، والرجعي: هو الكافر، والداعي إلى الكفر هو الرجعي! ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ﴾ [الفرقان: ٤] أي: إن هو إلا كلام ولده النبي واختلقه، (وأعانه عليه قوم آخرون) أي: من رومي ويهودي ونصراني، فالله أتى بهذا الكلام ليدحضه، ولينشر كل كلام الكافرين؛ ليكون الرد عليه، وقد قيل: يؤمن الناس عن يقين وعقيدة، وعن دليل وبرهان قاطع، ماذا عسى أن يقول الكافر في القرآن أكثر مما قاله الكفرة، وقد ذكره الله كله؟! ولكن من الذي يخاف من الرد والنقد؟! قديماً قيل: من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس بالحجارة، فالإسلام كالجبال الرواسي، وكالفولاذ الذي لا يؤثر فيه إلا الله، وهو الذي أتى به وقواه وناصره وثبته وخلده إلى أبد الآبدين، فمنذ ألف وأربعمائة والكفار المعاصرون لنبينا ومن جاء بعدهم وإلى يوم القيامة يقولون عن القرآن ويقولون عن النبي المنزل عليه القرآن ما شاءوا من كذب وافتراء وأضاليل وأباطيل، وما زال القرآن هو القرآن.
كناطح جبلاً يوماً ليوهنه فلم يضره وأعيى قرنه الوعل فذهبوا إلى جهنم، وسيذهب من جاء بعدهم، وسيبقى القرآن هو القرآن منذ ألف وأربعمائة عام على كثرة الكافرين والجاحدين، فما نقرؤه نحن اليوم ويقرؤه غيرنا حتى من الكفرة عندما يريدون مجرد المطالعة هو القرآن الذي أنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام سورة وآية، وحركة ومدة، بنفس اللغة والمنطق، وبنفس التجويد والحركات فيما كان يقرؤه هنا تجاه الكعبة المشرفة، وفي مسجده النبوي في المدينة، وقل جميع من جاء بعده كذلك وإلى عصرنا، هؤلاء حاولوا أن يغيروا وأن يبدلوا على الأقل، وأن يصنعوا بالقرآن ما صنعوه في توراتهم وإنجيلهم، وهذه من المعجزة الخالدة التالدة؛ لأن الله قد تعهد بذلك، وهذه من المعجزات الأبدية التي يكفي أن تذكر، ويكون فيها الرد البليغ على كل كافر: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩] وهذا واضح حيث لا نزال نراه، فالنبي كذبوا عليه وافتروا عليه والأحاديث المكذوبة كثيرة ومعروفة، ولكن الله تعالى حفظاً للقرآن وصيانة للإسلام وللبلاغ النبوي هيأ من الأئمة من مثل مالك وأحمد والشافعي وسفيان بن عيينة وعلي بن المديني والمئات ممن نافحوا عن سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فميزوا وغربلوا، وأسقطوا المكذوب، وأثبتوا الصحيح، حتى إنه ما من إنسان قال يوماً: حدثني فلان عن فلان قال رسول الله إلا وسألوه من أنت؟ من أبوك؟ من أسرتك؟ من شيوخك؟ ما هي دراستك؟ فيقبلونه إن ثبت صدقه، وثبتت أمانته، وذكر شيوخه في هذا الحديث، وهؤلاء الشيوخ أيضاً يجب أن يكونوا معلومين معروفين بالعلم والضبط والصدق والأمانة، وهكذا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإن لم يكونوا كذلك خلدوا مع الكاذبين، وقالوا عنه: فلان كذاب! فلان ضعيف! فلان وضاع! وهكذا كتب السلف؛ فصحت السنة، وأمنت من الزيغ، وأما القرآن فـ ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ [فصلت: ٤٢]؛ لأن الله هو الذي تعهد بحفظه جل جلاله، وهذه أكبر معجزة للإسلام، فقد غيرت التوراة مع أنها من عند الله، وغير الإنجيل مع أنه من عند الله؛ لأن الله لم يتعهد بحفظهما، ووكل حفظهما إلى علمائهم، فلم يستطيعوا الحفظ فضلوا وأضلوا، وحرفوا وبدلوا وغيروا، وكل ما يذكرونه في دينهم وعن أئمتهم الضالين في التوراة والإنجيل أكاذيب وأضاليل يجري بعضها خلف بعض، ولا يؤخذ من ذلك إلا ما هيمن عليه القرآن وأكده.
قوله: ﴿فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا﴾ [الفرقان: ٤] أي: جاء هؤلاء الكفرة بالظلم فظلموا أقوامهم، وستروا عنهم الحق، مع أن أولئك الذين قالوها كانوا في أنفسهم من أعرف الناس بصدق النبي، وأن ما قاله ليس إلا الحق، ولكنهم حسدوه وبغوا عليه، ولما عاش بينهم أربعين سنة ما كانوا يلقبونه إلا بالأمين والصديق، فهذا الذي لم يكذب على الناس مدة أربعين سنة أيكذب على الله بعد أن بلغ أربعين عاماً! كلا.
ثم هم يعلمون من أين له هذه المعارف والعلوم التي كانت مجهولة للعوالم كلها وإلى الآن؟! فالقرآن ليس معجزاً باللفظ فقط، فهو معجز باللفظ والمعنى، وفي كل ما أتى به من معارف سماوية وأرضية، وما كان وما يكون إلى قيام الساعة على كثرة الأعداء، وعلى كثرة الكفار لم يستطع أحد أن يثبت يوماً نقصاً في القرآن: لا في اللفظ، ولا في التعبير، ولا في المعنى، ومن أيام قريبة كتب فرنسي كتاباً يقارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقد أتى بالآيات التكنولوجية، أي: العلوم التطبيقية من علوم سماء وأرض، وطب وهندسة، وصيدلة وما إلى ذلك، جاء بالآيات التي تكلمت في هذا، وجعل يقارنها بما ذكر في التوراة والإنجيل، فقال: كل ما ذكر من ذلك في التوراة والإنجيل لم يكن صحيحاً من قبل، ولا يؤكده العلم اليوم، ثم جاء إلى ما يسمى بالعلم الحديث، فقال: كل ما وصل إليه العلم الحديث الآن -وهم يزعمون أنهم قد وصلوا من العلم إلى الدرجة القصوى- قد قاله القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة، والكثير منهم لا يزالون مترددين ومتشككين فيه، ولكن القرآن قد أخبر وأكد وأثبت سواء آمنوا أم لم يؤمنوا، فالإيمان والهداية بيد الله، وليس على الرسول إلا البلاغ، والله قد قال: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: ١٨]، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٢] فليس على رسول الله الهداية، فذاك أمره بيد الله، ومن باب أولى ليس على الدعاة إلى الله ولا على العلماء ورثة الأنبياء أن يهدوا الناس، ولكن عليهم أن يبلغوا رسالة نبيهم وكتاب ربهم، ويكونوا بذلك قد أزالوا العهدة عن أنفسهم، وأما الهداية فهي توفيق من الله، ونور يقذفه الله في قلب الإنسان، فإن اهتدى فهو المطلوب، ويعين على نفسه بالإكثار من الضراعة والدعاء إلى الله بأن يعلمه وينير بصيرته.
قوله: (فقد جاءوا ظلماً وزوراً) أي: ظلموا الناس، وظلموا أنفسهم بالافتراء والكذب على الحق، (وزوراً) أي: شهدوا شهادة الزور التي ما سمعتها أذن، ولا رأتها عين، ولا تأكدتها نفس، ولا علمتها معرفة، وإن هي إلا الأضاليل! وهكذا إلى عصرنا جاء من يزعم أنه فيلسوف كبير، وعالم كبير، وصرح بالكفر، فقال مثل ما قال الأميون قبل، ومثل ما قال الجهلة قبل، ومثل ما قال الكفار قبل.
ثم زادوا فقالوا شيئاً آخر:


الصفحة التالية
Icon