تفسير قوله تعالى: (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض)
قال تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦].
أي: قل يا محمد لهؤلاء وأمثالهم: (أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض)، وهذا القرآن كله أسرار، وقد ذكر الله فيه غيباً لم يكن يعرفه أحد، ولكن الذي أملاه وأوحى به، والذي أنزله هو من يعلم السر في السموات والأرض، وأما هؤلاء فمن أين لهم علم السر أو علم الجهر؟ من أين لهم العلوم والمعارف التي لم تحدث بعد، ولم تكن بعد، ولم تخطر على بال بشر بعد، وما صحت إلا بعد ذلك بألف عام، ولا يزال يصح بعضها مع مرور الزمن؟ فالقرآن فيه ذكر اختراع السيارة، والوصول إلى القمر، وكل ما يحدث إلى الآن، كل ذلك أخذ من كتاب الله، وأخذ بياناً من حديث رسول الله، ولذلك يقول النبي عليه الصلاة والسلام (فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل) هو الذي يفصل بين الحق والباطل، وهو الذي يبين الحقائق من الأكاذيب، وهو الذي يبدد الظلمات ليحل محلها النور، وهو الذي يعلم الجاهل فيزيل جهله، وهو الذي ما إن تركه جبار إلا وقصمه الله وقضى عليه في الدنيا قبل الآخرة، وعذب عذاب الدنيا ونحن نرى هذا، فمن سبقنا من الأباطرة المسلمين ممن يشبهون الأكاسرة والقياصرة، وتركوا القرآن حاكماً ماذا جرى لهم؟ الكثير عذب في حياته، فسملت عيناه بالنار إلى أن سالتا، وأصبح يتسول على أبواب المساجد ويقول: خليفتكم لا طعام له ولا خبز، وقد كان أيام حكمه طاغية من الطغاة، جبار من الجبابرة، فرعون من الفراعنة، قد كان هذا كثيراً في أيام بني أمية وأيام بني العباس وأيام آل عثمان، وأين ذهبوا؟ وما الذي جرى لهم؟ من الذي يذكر بخير؟ من الذي خلد مع الخالدين؟ الخلفاء الراشدون الذين لا يذكر أحدهم إلا ويقال مع ذكره: رضي الله عنه، ولم يذكر إلا الصالحون فنقول: عمر بن عبد العزيز: رحمه الله ورضي الله عنه، ونقول هكذا عن الحكام العادلين، وأما أولئك فلا يذكرون إلا ويذكر الظلم معهم، واللعنة تتبعهم، وقد قصمهم الله في الدنيا، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى.
قال تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الفرقان: ٦] وماذا تعلمون أنتم؟ والذي يعلم السر هو يعلم الجهر، أنزله الله جل جلاله خالق السموات والأرضين لا كما يزعم هؤلاء الكاذبون المشركون.
قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦] قال الحسن البصري: أرأيتم أكرم من الله؟ أرأيتم أكثر جوداً من الله؟ أرأيتم أكثر رحمة من الله حتى مع الكافرين؟ قال الله عن هؤلاء الكافرين وقد طعنوا في كتابه وكذبوه سبحانه، وطعنوا في نبيه وكذبوه، ومع ذلك قال عنهم إن رجعوا عن ذلك فتابوا وأنابوا فإنه يغفر لمن تاب، ويرحم من تاب، ويغفر ذنوب من تاب، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام شرحاً لذلك: (الإسلام يجب ما قبله) أي: يقطع ما قبله.
وهكذا تجد الله في الوقت الذي ينذر ويتوعد ويهدد يعود فيذكر الرحمة؛ لأن الله قال عن نبينا: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧]، وقال نبينا عليه الصلاة والسلام: (إنما أنا رحمة مهداة)، ففي وقت العنف والشدة والبطش يعود فيذكر رحمته ومغفرته؛ لعله يعود إلى الله ويتوب، وقد قاله البعض ورجع وتاب وأناب، وأصبح من كبار الفاتحين وكبار الصحابة، فلا يذكرون إلا ومعهم الرضا.
والنبي عليه الصلاة والسلام أخرج من مدينة وحيه ومسقط رأسه الشريف بعد أن تحمل الشدائد من كفار مكة، وخرج وهو لا يريد الخروج، خرج فراراً بدينه، وفراراً برسالته إلى أن يتمها ولم تتم بعد، ومع ذلك عندما نصره الله وأظفره الله بمكة وأعداؤه من الكافرين فيها ماذا صنع بهم؟ إنه لم يأمر إلا بأربعة عشر فرداً منهم، حيث قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة، ومع ذلك بعض هؤلاء جاء مختفياً مستغفراً، فتاب عليه واستغفر له، وبعضهم فر منه، فتاب عليه واستغفر له، والبعض قتل، أما الآلاف فقد تجمعوا بين يديه وأخذ يسألهم: ماذا ترون يا معاشر قريش أني فاعل بكم؟! فنسوا طغيانهم وظلمهم وتآمرهم في كل وقت بقتله وبسجنه وتعذيبه فيما كانوا يريدون، فأخذوا يتملقون ويتمسحون فقالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم، وإذا بالنبي الكريم الذي كان حريصاً على هداية قومه لم يزد على أن قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فسامحهم عليه الصلاة والسلام، وضرب لهم في الإسلام أجلاً أربعة أشهر، والعرب ما كان يقبل رسول الله منهم إلا الإسلام أو السيف، ولذلك فكل من يزعم أنه عربي وليس بمسلم كذاب، وانظروا الآن هؤلاء النصارى الذين يقتلون المسلمين، واليهود الذين كانوا في بلادنا وخرجوا وهم الآن يقتلون المسلمين؛ أول ما يفعلون أنهم يتبرءون من العربية، ويقولون: لم نكن عرباً يوماً! هكذا يجري الآن في لبنان وفي فلسطين، وهكذا أقباط مصر، وهو الواقع، وقد نص المؤرخون على أن النبي عليه الصلاة والسلام ثم الخلفاء الراشدين بعد أن فتحوا العراق والشام لم يبق عربي إلا وأسلم، فكل من يزعم العربية من غير المسلمين فهو كاذب مفتر ليس بعربي.
قال تعالى: ﴿قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦].
فإن كان غفوراً للظلمة للكافرين فهو أولى بأن يغفر للمؤمنين في بعض عصيانهم ومخالفاتهم، وهم منطوون على التوحيد والإيمان بالله، وبرسول الله، وبكتاب الله الحق، فالله غفور رحيم، ولكن لا يغتر الإنسان، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لو يعلم الكافر ما عند الله من مغفرة لطمع فيها، ولو يعلم المؤمن ما عند الله من عذاب ليئس من رحمة الله)، ومعنى ذلك: يجب على المؤمن ألا يغتر، فعليه أن يستمر على العبادة والطاعة ولا يقول: الله غفور رحيم، ومن قال لك: إنه سيغفر لك أنت بالذات؟ ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن النار تجمع مؤمنين عصاة ثم يخرجون، وتجمع كافرين أبداً ولا مغفرة ولا رحمة، فمن يدرينا أن أحد هؤلاء الذين يكونون في النار واحد منا؟ إذاً: ماذا نصنع؟ نكثر من الطاعة والتوبة والاستغفار، ونقول ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: (خيركم من مات على رقعه) أي: ثوبه، أي: أنه أذنب ثم رقعه -أي: تاب-، ثم انقطع ثوبه وتمزق -أي: أذنب- ثم خاطه -أي: تاب-، وهكذا خير الناس من مات على التوبة والمغفرة، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين.


الصفحة التالية
Icon