تفسير قوله تعالى: (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك)
قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠].
يقول الله لنبيه: إن هذا القول لا يقوله إلا سخيف العقل مظلم القلب، فأنت أعظم من كل ذلك، فلك البلاد ومن عليها بل ولك الدنيا، ولك الآخرة كذلك، وستقف يوم القيامة موقفاً لن يقفه ملك ولا نبي، يوم تشفع في الخلائق كلها، وتكون كما أخبرت عن نفسك: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر).
وإن عرضوا عليك ما عرضوه، وقالوا عنك ما قالوه، فأنت سيد الأرض، والعوالم كلها جعلت لك رعية وأمة، فمن آمن بك اهتدى، ومن كفر بك ضل، وعليه الخزي والدمار إلى يوم القيامة.
فقوله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي﴾ [الفرقان: ١٠] أي: تقدس الذي، كأول السورة: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ﴾ [الفرقان: ١] أي: تقدس الذي إن شاء، والأمر بمشيئة الله فما شاء فعل.
قوله: ﴿جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠] أي: خيراً منه، فالبستان الذي عرضوه عليك فيه قليل من النخيل والماعز والضأن والبقر، فسيجعل لك خيراً من ذلك الكثير الكثير في الدنيا إن شئت.
قوله: ﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [الفرقان: ١٠] أي: في الدنيا.
قوله: ﴿وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا﴾ [الفرقان: ١٠] وليس قصراً واحداً، بل قصور لا يملكها ملك في الأرض، وفعلاً قد جاء ملك إلى النبي عليه الصلاة والسلام وعنده جبريل ولم ينزل إلا تلك الساعة، فقال له: يا محمد! جئتك من ربك يعرض عليك مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بعدك، يعرض عليك جبال مكة وبطحاءها أن تكون لك ذهباً وفضة، ومكة أنهراً جارية.
وإذا به يقول: (يا رب! أجوع يوماً وأشبع يوماً، أجوع يوماً فأذكر ربي وأتضرع إليه، وأشبع يوماً فأحمد ربي وأشكره).
هذه عبادة النبي ﷺ يعيش بين صبر وشكر، وكل من الصابر والشاكر له الدرجات العلا عند الله في الدنيا والآخرة.
ومن هنا كان سيد البشر ﷺ الأسوة الحسنة لكل الخلق، ولذلك فإن المتتبع لسيرة النبي ﷺ قولاً وفعلاً وتقريراً فهو الناجي بين البشر، وبين الفرق التي تمزقت من المسلمين وستتمزق، فإن الفرقة الناجية هي ما كان عليه ﷺ هو وأصحابه الأول من المهاجرين والأنصار.
إن الحياة رحلة قصيرة، كما شبه ﷺ الحياة كلها كراكب استظل بظل شجرة عند شدة القيظ والحرارة، وإذا بالشمس تزول عن كبد السماء فيأخذ الظل طريقه ويذهب، فهذه هي الدنيا كلها في الأولين والآخرين.


الصفحة التالية
Icon