تفسير قوله تعالى: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام)
قال الله تعالى: ﴿((وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠].
هذا جواب قولهم الأول: ﴿وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧]، فقال الله لنبيه وأسمع أولئك: ﴿وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠].
يقول تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: لم تكن بدعاً من الرسل، ولم ترسل بشيء لم يرسل به الأولون، فمن سبقك من الأنبياء كانوا جميعاً بشراً.
فالأنبياء كانوا يأكلون الطعام، وكانوا يتناكحون ويتزاوجون، وكانوا يمرضون ويصحون، وكانوا يحاربون يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانوا يتكسبون في الشوارع يبيعون ويشترون، وكانوا يقومون بالمهن وبالصنائع، فكان منهم الحداد، ومنهم الزراع، ومنهم النجار، ومنهم البحار، فكانوا يتكسبون في الأسواق عارضين سلعة وشارين سلعة ومع ذلك يدعون إلى الله.
وفي هذه الآية مشروعية العمل، وأنه لا يليق بالإنسان أن يعيش عالة على الناس، وأن العمل ليس عاراً، والتكسب ليس منقصة.
وكان عمر رضي الله عنه يقول: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألته ما تعمل ووجدته لا يعمل سقط من عيني.
وهكذا الإنسان إذا لم يكن له عمل يعيش به من حرفة أو تجارة أو زراعة أو قلم أو فكر أو أي شيء يستغني به عما في أيدي الناس فإنه يكون ناقص الهمة ضعيف النفس، ويكون غيره الذي ينفق عليه ويتصدق عليه ويعطيه أشرف منه وأكرم وأنبل، إلا إذا كان عاجزاً، فإذ ذاك جعل الله رزقه وجعل حياته في بيت المال بعد أن يكون أولياؤه لا يملكون النفقة عليه ولا يملكون رزقه.
فالأسرة متضامنة، والغرم إذا التزم به إنسان لزم بقية الأقارب إعانته، فالإسلام هو الذي أتى بهذا كاملاً غير منقوص: زكاة وصدقة ونفقة، بحيث لو كانت الزكوات والنفقات تؤدى كما أمر الله ورسوله لما وجد فقير بين المسلمين قط.
ولكن انتشر الظلم، وأكل أموال الناس، فالزكاة في مالك ليست لك، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: ٦٠] واللام هنا هي للتمليك، أي: ملك لهم، وللفقراء إذا منعوا حقوقهم وزكاتهم أن يقاتلوا عليها بحد السلاح، فمن مات من الممتنعين فإلى سقر ودمه هدر، وإذا قيل أحد الطالبين للحق فيقتل قاتله.
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ [الفرقان: ٢٠] فتن الله الفقير بالغني والغني بالفقير، فالفقير يقول: ما بال هذا أنا أذكى منه وأعلم منه وهو أغنى مني؟ ويقول الغني: ما بال الفقير يحسدني وأنا عملت أكثر؟ وتجد الرعية تفتن بملوكها وحكامها لمكانتهم، فيفتن هؤلاء بهؤلاء، ويفتن الصحيح بالمريض، فيقول المريض: لم هذا صحيح وأنا مريض؟ ويقول الصحيح: لم المريض يحسدني؟ أنا أعالج نفسي، أنا أبذل لها، وأنا لا أستهتر بصحتي، وهكذا دواليك في كل شيء.
وهكذا فتن الله الناس بعضهم ببعض وابتلاهم في الدنيا؛ اختباراً وامتحاناً ليرى هل سيصبرون ويعتقدون أن كل ذلك من الله أو لا، ﴿نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٢] أي: أن الله هو الذي قسم المعيشة بين الناس، كما يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله قسم بينكم عقولكم كما قسم بينكم أرزاقكم).
ومع ذلك يعمل إنسان من الصباح إلى المساء ولا يكاد يحصل شيئاً، ويعمل إنسان آخر ساعة أو ساعتين فيحصل الكثير والكثير، ولذلك ليس للإنسان أن يحسد أو يغار، وليس للإنسان أن يطالب بزوال ما عند غيره، بل عليك أن تعمل واحمد الله على ما رزقك.
فإن لم تكن لك قدرة على العمل أو لم تجد عملاً، فحياتك ورزقك من بيت مال المسلمين وفي أموال الأغنياء، فإن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي فقراءهم، فإن جاعوا أو عزوا فبمنع الأغنياء، وحق على الله أن يعذبهم على ذلك ويحاسبهم عليه.
إن انتشار الشيوعية والاشتراكية في الأرض عقوبة سماوية من الله؛ لمنع الأغنياء حقوق الفقراء، فاستبدوا بها وتركوهم جياعاً وعرايا ومرضى، وتركوهم جهلة، وإذا بالله الكريم يسلط عليهم من يأخذ أموالهم ويذلهم ويحتقرهم وينقصهم، ويقول عنهم: لصوص، وإقطاعيون وغير ذلك.
ولو كان المسلمون يؤدون زكاة المال وما أوجب الله في ذلك لوجدت الفقير يحرص على الغني، ويدعو له بالخير والسعة وطول العمر؛ لأنه يعيش من ذلك.
وهكذا دائماً فإن العقوبة من جنس العمل، فالله رزقه إذ خرج للدنيا ولا يملك شيئاً، وما هذا المال إلا مال الله، فقد قال تعالى: ﴿وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: ٣٣].
فعندما لم يعطوا مال الله للمستحقين من عباد الله سلط الله عليهم من يذلهم ويهينهم، ويزيل عنهم أملاكهم، ولعذاب الله أنكى وأشد إن ماتوا على ذلك.
قال تعالى: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] أي: هل يصبر الفقير على فقره، والغني على إعطاء الزكاة والنفقة وإعطاء السائل ما سأل؟ فقد جعل الله من صفات المؤمنين ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥].
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (للسائل حق ولو جاء على فرس).
فقوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ﴾ [الفرقان: ٢٠] أي: أيصبر هؤلاء ويضرعون ويشكرون؟ أيصبر أولئك على شكر نعم الله ويؤدون من مالهم ما فرض الله؟ وكما قال القدوة الأعظم ﷺ عندما عرضت عليه مكة وجبالها وبطحاؤها ذهباً وفضة: (بل أجوع يوماً فأصبر وأضرع، وأشبع يوماً فأحمد الله وأشكره)، وهكذا المؤمن فلا غنى يدوم ولا فقر يدوم، فهو مال الله يجعله الله دولة بين أيدي عباده، والغنى ابتلاء والفقر ابتلاء.
قال تعالى: ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا﴾ [الفرقان: ٢٠] أي: بصيراً بالصابر من الشاكر، بصيراً بالمؤمن من الكافر، بصيراً بالصالح من الطالح، يعلم كل شيء، وقد أمر بما أمر به، وابتلى بما ابتلى به، فمن أطاع وامتثل فله الجنة والرحمة والرضا والحياة الطيبة في الدنيا، وله في الآخرة الرضا والرحمة والخلود في الجنان.
ومن كفر ولم يشكر ولم يصبر فله العذاب في الدنيا وأنواع البلاء، ولعذاب الله يوم القيامة أشد، والله بصير بكل ذلك.