تفسير قوله تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين)
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: ٦٠].
ندخل الآن في القصة الثالثة من سورة الكهف، وهي قصة الخضر وموسى عليهما السلام، فالله جل جلاله يقص علينا هذه القصص -قصص الأنبياء والصالحين والكافرين والمجرمين- لنتخذ منها العبرة، ولنتخذها درساً في حياتنا ومآلنا، وإعداداً لآخرتنا، لا لنتفكه، ولا لمجرد الحكاية والقصة؛ ولذلك فإن الله جل جلاله لا يتبع التفاصيل كما يفعل أصحاب القصص، ما اسم زيد؟ ما اسم عمرو؟ في أي سنة كان؟ ما اسم كلبهم؟ ما اسم أمه وأبيه؟ هذا خارج عن العبرة والعظة؛ ولذلك لا يلتفت القرآن له ولا يهتم به، وإنما يذكر العظة والعبرة لنتخذها دروساً كما مضى في النصف الأول من كتاب الله في جميع قصصه.
واذكر يا محمد (إذ قال موسى لفتاه) أي: موسى بن عمران، من أولي العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وكان موسى من أكابر الأنبياء، فهو كليم الله جل جلاله، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام كلمه الله في ليلة الإسراء عندما أمره بالصلاة، وكان ذلك بلا واسطة من جبريل؛ ولذلك ما من منقبة ذكرت في نبي من الأنبياء إلا وكان مثلها وأعظم لنبينا عليه الصلاة والسلام.
قوله: (إذ قال موسى لفتاه)، وفتاه نبي من الأنبياء، هو يوشع بن نون، كان خادماً له، وهذا شأن الكبار من العارفين بالله أنبياءً ورسلاً وعلماء، فلقد كان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام جمع من الصحابة ذوي المقامات العلية كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد واذكر لهم هؤلاء الأخيار الأكابر، وهؤلاء السادات الأعاظم، وهؤلاء الذين هم أفضل الخلق بعد الأنبياء على الإطلاق.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) أي: خير قرون الأرض على الإطلاق القرن النبوي الذي بزغ فيه هذا العربي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه في هذه البقاع المقدسة، وقال: يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فكان أصحابه لشرفه شرفاء وعظماء، فكانوا أعظم الناس بعد الأنبياء على الإطلاق.
وقد أقسم الله بعصره كما في أحد التفاسير: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر: ١ - ٢] أقسم بعصر محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل: أقسم بوقت صلاة العصر؛ لأنها هي الصلاة الوسطى، كما ثبت ذلك نصاً في صحيح مسلم.
قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ [الكهف: ٦٠] أنزل الله جل جلاله أنزل ما من هذه القصة، وهي قصة موسى والخضر، فموسى سماه باسمه ولم يقل: ابن فلان، والخضر لم يسمه، فلم يكن فيه نزاع أنه الخضر، وأما موسى فقد قال قلة إنه ليس موسى بني إسرائيل، ولكنه موسى بن موسى، هذا قول قاله أحد من أسلم وكان يهودياً، وهو نوف البكالي ربيب كعب الأحبار، ولكن عندما بلغ ذلك ابن عباس قال: كذب عدو الله! فكذبه ووصفه بعداوة الله، وكأن في نفس ابن عباس من كعب أشياء، كما كان ذلك عند العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام كان عند عائشة أم المؤمنين وكما كان عند عمر أمير المؤمنين، وكما كان عند معاوية ملك الشام ومؤسس الأمويين.
فقال ابن عباس: كذب عدو الله، وقال له ذلك سعيد بن جبير؛ فقال ابن عباس: حدثني أبي بن كعب (حدثني رسول الله ﷺ وقد قرأ سورة الكهف أنه موسى بن عمران) وأما أنه موسى بن موسى فهذه من الإسرائيليات، ولا دليل عليها، وهي كذب وهراء، وقد كذبها حبر القرآن ابن عباس.
لقد كان موسى يخطب يوماً في قوم حتى خشعت قلوبهم تأثراً بالموعظة الحسنة، وبعد أن انتهى من الخطبة تبعه أحد المعجبين بكلامه وعلمه ومعرفته، فقال له: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا أحد.
وإذا بالله الكريم بعد ذلك يعاتبه ويقول له: بلى عبدنا الخضر، والرواية في مسند أحمد، وفي صحيح البخاري ومسلم رواها أبي وغيره من الصحابة الكبار والصغار رضي الله عنهم جميعاً، والقصة مغزاها الأول واضح، والآن نأتي إلى المغازي جميعاً بعد نهايتها، فمنها: أنه إذا كان الله جل جلاله لم يقبل من موسى -وهو أحد أولي العزم من الرسل- أن يقول: لا أحد أعلم مني في الأرض، فكيف بغيره.
وإذا بموسى يبتدئ طلب العلم وكأنه تلميذ جديد دخل المدرسة الابتدائية، وكان ذلك إيثاراً من الله بأن يذهب موسى ويتعرف على الخضر ويتعلم من علومه ومعارفه، فسأل ربه وقال: يا رب! اجمعني بهذا، فقال: خذ حوتاً زاداً للطريق، واجعله في مكتل، وفي مجمع البحرين عند صخرة هناك سوف تفقد الحوت، فتلك علامة كانت لموسى في وجود الخضر.
والخضر عبد من عبيد الله، وهو يتنقل في هذه الأرض من قبل موسى لا مكان له ولا منزل، وهو في مختلف البقاع شرقيها وغربيها، يعبد الله ساجداً قائماً راكعاً موحداً مقدساً، وقالوا عنه: يعيش بشربة ماء من زمزم مرة في العام.
وقد عرفنا موسى وقصصه في كتاب الله، أما الخضر فلم يذكر مرة أخرى، ولولا أن النبي صح عنه أن هذا العبد الذي أخبر الله موسى عنه لقلنا هو عبد من عبيد الله الله أعلم من هو، وما اسمه، وهل لا يزال موجوداً.
وقد قال قوم: إن الخضر ابن آدم مباشرة، وقيل: ابن نوح، وقيل: من بني إسرائيل، أي جاء بعد إبراهيم من سلالة إسحاق، وقيل: هو أمير ابن ملك، وقيل: ليس اسمه الخضر وإنما هي صفة، فقد كان يتعبد الله في قطعة من الأرض لا نبات فيها ولا خضرة، فيبقى يدعو الله وهو يبكي بدموعه حتى تسقى الأرض بدموعه فتنبت، فيصبح وكأنه على فروة خضراء من النبات، وكأنه على جلد أخضر، فسمي الخضر من أجل ذلك.
هل لا يزال حياً؟ أما أصحاب الآداب والرقائق فيكادون يجمعون على أنه لا يزال حياً، ويحكون عجائب وغرائب في ذلك، وأما أهل الدليل والبرهان والمحدثون، فقد خصه برسالة الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني إمام المحدثين، الذي لم يأت بعده مثله، وقد كان في القرن التاسع، وقليل نظراؤه فيمن تقدموه، فقد ترجم له في كتابه الإصابة في تراجم الصحابة، بناءً على قول من قال: إنه بقي إلى العصر النبوي، وأنه جاء إلى رسول الله مؤمناً به عليه الصلاة والسلام، وكانت رسالته مستقلة، وأظنها قد طبعت، وتجاوزت مائة ورقة، وقد طبعت ضمن كتاب فتاوى السيوطي فيما يسمى الحاوي في الفتاوي.
ثم هل كان عالماً عارفاً بالله وولياً فقط أو كان نبياً؟ الكثيرون يقولون: إنه كان نبياً، وكثرة أيضاً قالوا: إنه كان ولياً، ولكن ظاهر القرآن وسياقه يدل بما يشبه اليقين أنه كان نبياً.
ولنعلم أن فئة الرسل والأنبياء أشرف الخلق، أما الأولياء فهم طبقة ثانية بعد الصحابة، فالصحبة مقامها عزيز جليل.
فهل الخضر لا يزال حياً؟ وأتى بعضهم بأحاديث كثيرة لم يسلم سند حديث منها من مقال تدل على أنه جاء إلى رسول الله وآمن به، يقول ابن حجر: لو كان الخضر حياً لكان لابد من أن يأتي إلى رسول الله فيؤمن به؛ لأن الرسول نبي إلى جميع الخلق ممن أدرك حياتهم، فلا يسع الخضر إذا ظهر رسول الله وخاتم الأنبياء إلا أن يأتي مسلماً مستسلماً.
ولقد قال عن موسى وهو من أولي العزم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) وعيسى سينزل في آخر الزمان كما جاء في القرآن والسنة فيكون على دين محمد، فيحج حجنا، ويستقبل قبلتنا، ويقتدي بأئمة المسلمين، فكيف يكون الخضر حياً ولا يأتي إلى رسول الله مسلماً ومؤمناً؟! ومن هنا مال الحافظ إلى قول من أتى بأنباء وأخبار أخرى عمن ذكر عن نفسه -وهم مشهورون بالصلاح والصدق- أنهم اجتمعوا بالخضر فحدثهم وحدثوه، لكن لابد أولاً من معرفة هل كان حياً أيام رسول الله؟ فإذا لم يكن حياً فكل ما يذكر من بعد يجب أن نقابله بالشك والارتياب، وإن كان حياً فلا يسعه بحال من الأحوال إلا أن يأتي إلى النبي ﷺ ويقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
وعلى هذا الأساس بحث العلماء والمحدثون، وأصحاب الأدلة والبراهين، فهو عند المحدثين لم يكن حياً أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذكر الكثير ممن ينتسب للعلم والإمامة في العلم عن شيوخهم وعن علماء عارفين أنهم رأوه، وتحدث إليهم وتحدثوا إليه.
ولكن لابد أن يصاحب الدليل، وأن يعنى بالسنة، ومن لا يقبل الكلام هكذا على عواهنه فعليه أن يبحث المقدمة الأولى: هل أدرك الحياة النبوية؟ فإن كان الخضر قد أدرك الحياة النبوية فهو لا شك بعدها، وإذا لم يكن كذلك فمعناه أنه لم يكن في الحياة النبوية؛ لأنه لو أدركها لآمن به.
المقدمة الثانية: من المعروف الصحيح المتواتر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبقى على وجه الأرض أحد ممن هو عليها الآن)، وقد قال هذا قبل موته بسنة أو سنتين؛ ولذلك حسبوا وتتبعوا فقالوا: من كان في هذا الوقت ممن رآه رسول الله أو رأى رسول الله فقد توفي، وهذا أبو الطفيل عامر بن واثلة من صغار الصحابة قالوا عنه: إنه كان آخر الصحابة موتاً، حيث مات على رأس القرن الأول من الهجرة، وعندما قال هذا الحديث عليه الصلاة والسلام قالوا: كان عمر الطفيل سنتين أو ثلاثاً، وعاش بعد تمام القرن بسنتين أو ثلاث ليتم القرن.
قالوا: فلو كان الخضر موجوداً لجاء مبايعاً مسلماً مستسلماً لرسول الله مؤمناً بأنه رسول الله إليه قبل أ


الصفحة التالية
Icon