تفسير قوله تعالى: (وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم)
قال تعالى: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفرقان: ٣٧].
أي: واذكر كذلك يا محمد قوم نوح عندما بعثنا لهم نوحاً، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وهو يدعوهم إلى الله صباحاً ومساءً، حضراً وسفراً، ليلاً ونهاراً، وفي كل وقت وحين ونوح متحمل وصابر، فقد صبر أكثر من نبي الله أيوب، فأيوب صبر بضع سنوات.
أما نوح فصبر ألف عام إلا خمسين عاماً، إلى أن قال له الله: ﴿لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾ [هود: ٣٦]، وقال: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠].
فأخبره الله بأن الذين قد آمنوا لن يزيدوا، وهم قليل، فرفع يديه متضرعاً وقد صبر صبر الكرام، وقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦ - ٢٧].
فدعا على الكبار والصغار؛ لأن الآباء والأمهات لا يلدون إلا أمثالهم، ويقبلون على الكفر، ولا ينصتون إلى نوح، ويصدون من آمن منهم عن نوح.
فقوله: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ﴾ [الفرقان: ٣٧] ولم يرسل الله إلى قوم نوح إلا نوح ومع ذلك ذكر تكذيبهم للرسل، ومعنى ذلك: تكذيب المبدأ، فمن كذب رسولاً واحداً فإنه يكون قد كذب جميع الرسل، ومن يعبد وثناً أو خلقاً أو حيواناً لم يؤمن برسول من الرسل؛ لأن دعوتهم واحدة، والوحي واحد، والمعبود واحد، والمنزل للكتاب واحد.
فكان هؤلاء بتكذيبهم للرسول الواحد نوح كمن كذب جميع الرسل، وقص الله علينا قصة قابيل وهابيل عندما قتل أحدهما الآخر، فكان من قتل نفساً كأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً.
فمن أزهق روح إنسان فهو بنفسه الشريرة، وبخلقه القاسي، وبعدم خوفه من الله وعقابه كمن أزهق أرواحاً، ومن سعى في إحياء روح بالإحسان إليها، وبدفع الضر عنها، يكون كمن أحيا الناس جميعاً، وهذا باعتبار مراعاة المبدأ أو عدم مراعاته.
وهكذا قوم نوح عندما كذبوا نبياً واحداً كانوا كمن كذب الرسل كلهم، والرسالات جميعاً، فكفروا بالنبوءة والرسالة، وكفروا بالمرسل لها كذلك.
فقال الله عنهم: ﴿وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ﴾ [الفرقان: ٣٧] أي: عاقبهم الله بالغرق، وهذا فيه تحذير وإنذار للذين يكفرون بمحمد خاتم الأنبياء وسيد الأنبياء صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً﴾ [الفرقان: ٣٧] جعل الله قوم نوح عبرة للناس، ومثالاً وتحذيراً، حتى إذا حاول أحد من الناس أن يصنع صنع قوم نوح من التكذيب برسل الله، والصد لرسل الله، والوقوف في وجه الدعاة إلى الله، كان عقابه ومآله وخاتمته هي خاتمة قوم نوح، فكانوا آية وعبرة.
وقوله تعالى: ﴿وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ [الفرقان: ٣٧] أي: اعتدنا وهيأنا لكل ظالم كافر، ولكل مشرك لا يؤمن بيوم الحساب عذاباً أليماً، كالعذاب الذي قابله وبلي به قوم موسى وهارون وقوم نوح كذلك.
فمن لم يؤمن من أمة محمد وكفر بالله ورسوله، فليحذر عاقبة كعاقبة المكذبين السابقين من أقوام الأنبياء السابقين.