تفسير قوله تعالى: (ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠].
يقول تعالى عن هؤلاء الذين عصوا النبي ﷺ وكانت لهم رحلة الصيف والشتاء للتجارة إلى اليمن والشام، هؤلاء الذين قال الله عنهم: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ [الفرقان: ٤٠] أي: أنزل الله عليها حجارة، وقوارع، وصواعق من السماء، وقلبها رأساً على عقب، وجعل عاليها سافلها ثم أمطر عليها حجارة من سجيل.
هذه القرية التي أتى هؤلاء عليها ومروا عليها وهم يرونها في طريقهم إلى الشام هي: سدوم وخمس قريات من أرض فلسطين، وهي القرى التي أرسل فيها لوط نبياً لهم ورسولاً عليهم، وقد كانوا يأتون الفاحشة التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، فاكتفى الرجال بالرجال، إلى أن طمعوا في رسل الله الملائكة الذين جاءوا إلى لوط يخبرونه بأن يترك القرية، وفي الصباح سيجعلون عاليها سافلها، ثم سيمطرون بحجارة من سجيل من السماء، وقد قالوا: ﴿أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾ [هود: ٨١].
وكان لوط قد انزعج عندما جاءه أنبياء الله من الملائكة في صورة أحداث وشباب مرد، وكانت زوجة لوط تخبر قومها أصحاب الفاحشة عن كل من يأتي زائراً إلى لوط، وتقول لهم: لقد جاء لوطاً فلان وفلان وفلان؛ ليأتوا إليه فيطلبون أولئك الشبان، فلما جاءته الملائكة في صورة أحداث انزعج لوط، فطمأنه هؤلاء الملائكة.
فعندما خرجوا إليهم ضربوهم بأجنحتهم وإذا بأعينهم تطمس، ليست تعمى فقط، إنما أصبحت لحماً كالجبهة والخد، ثم أمر الله جل جلاله هؤلاء الملائكة فأتوا إلى الأرض التي كانوا فيها فأخذوها من أطرافها ورفعوها حتى سمع سكان السماء أصوات الديكة وأصوات الحمير، ثم قلبوها عاليها سافلها، ثم رجموهم بالحجارة.
ويقول الكثير من الأئمة من الصحابة والتابعين وأئمة الاجتهاد: بأن مرتكب هذه الفاحشة يرجم بالحجارة عزباً كان أو متزوجاً.
والبعض قال: يجعل على أعلى جبل ويدهده، أي: يرمى ويقذف إلى أن يصير في الحضيض ويتقطع إرباً إرباً، وأجزاء أجزاء؛ لأن الله عاقب هؤلاء بهذا، فجعل الأرض عاليها سافلها ثم قذفهم بالحجارة من السماء.
وكانت قريش في تجارتها في الجاهلية تمر على قرى قوم لوط في أرض فلسطين، وترى آثار الخسف والرجم، وبقي هذا لأزمان، ولعله إلى الآن لا يزال يرى هذا.
فالله يقول لهؤلاء: ﴿وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ﴾ [الفرقان: ٤٠] أي: قد جاءوا لهذه القرية التي أنزلت عليها أمطار ليست بالماء ولكن بالحجارة، والحجارة كانت من سجيل، فمطروا مطر سوء، ومطر هلاك، ومطر قضاء، ومطر خسف ومسخ ورجم.
وقوله: ﴿أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا﴾ [الفرقان: ٤٠] أي: أليسوا يرونها في ذهابهم وإيابهم في رحلاتهم التجارية صيفاً وشتاءً، ألا يتخذون من ذلك عبرة؟ ألا يتخذون من ذلك ما يعيدهم للدين والإيمان والتوحيد.
وقوله: ﴿بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا﴾ [الفرقان: ٤٠] أي: بل كانوا كفرة لا يخافون النشور والبعث، ولا يؤمنون بيوم القيامة، ومن كان كذلك فهو لا يخاف الله؛ لأنه يعتقد أن الدنيا إنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، ولا حياة ثانية، فهم كبقية الكفار بناء على هذا الرأي الفاسد وهذه العقيدة الضالة، فيشكرون ويظلمون ويقطعون الأرحام ويهتكون الأعراض ويكفرون بالله وينشرون الفساد، ويقولون: إن هو إلا الدهر، وهم من نسميهم بالدهريين وبالملاحدة وبمن لا دين لهم.
وكل من في الأرض على هذه العقيدة وعلى هذا الدين إلا المسلمين الذين لا يزالون متمسكين بدينهم، والكثير منهم قد ضلوا وآمنوا بأفكار وآراء ضالة وفلسفات وافدة لم تأتهم إلا بالشرك، والإلحاد والبعد عن الله ودينه وكتابه ونبيه صلى الله عليه وعلى آله.
فالله يقول عن هؤلاء: ليس لك بهم أن يفهموا أو يدركوا أو يؤمنوا، فإذا مروا على هذه القرية التي أمطرت مطر السوء فيرون بأعينهم ما نزل بهم، ولكن لكفرهم بالله وعدم إيمانهم بيوم البعث والنشور فهم لا يخافون بعثاً ولا نشوراً، ولا يخافون يوم القيامة، يوم يعرضون فيه على الله إما إلى جنة وإما إلى نار.
ونتيجة هذه العقيدة ازداد كفرهم وصدهم، وأصروا على الكفر وأنواع الدعارات والفسوق، كما ورد عن أصحاب الرس أنهم انفردوا ببلاء آخر، فقد كانت النساء يستغنين بالنساء، وهو ما يسمى بالمساحقة، كما كان الرجال يستغنون بالرجال عن النساء من قوم لوط، وهذا فعل شنيع، ونسبته إلى نبي الله لوط نسبة فظيعة، فصارت هذه الفاحشة تسمى باللوطية، وهو شيء ما كان ينبغي أن يكون، ولكن هذا الذي كان.
فأصبح علماً لهؤلاء الرجال الذين يستغنون بالرجال والنساء اللاتي يستغنين بالنساء، وهذا بلاء قد عم وطم، وأنذر الناس به قديماً وحديثاً، وما كان في قوم إلا وعمهم الله بعذاب، وعمهم بالمحنة، وعمهم بالذل وبالهوان وبالسحق وبالدمار وبالهلاك.


الصفحة التالية
Icon