تفسير قوله تعالى: (ولقد صرفناه بينهم ليذكروا)
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: ٥٠].
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفرقان: ٥٠] أي: قسمناه ووزّعناه، فتجد السحب وهي في السماء تمطر هذه الجهة ولا تُمطر الأخرى، وتُمطر هذه البلدة ولا تُمطر الأخرى، وتجد هذا البستان قد أُمطر والذي بجانبه لم يُمطر، وحين تسافر ترى ذلك، حيث تجد أرضاً لا مطر فيها، وتذهب يسيراً فتجد أرضاً قد أُمطرت.
وقد قالوا: هذا يكون من صنع الله جل جلاله عقوبة لذاك الذي لم يُمطر، حيث لم يزك ماله، ولم ينفق منه، ولم يعبد ربه، بل عصى ربه وأذنب في حقه، وقد يُمطر الكافر أكثر من المسلم أحياناً؛ ليكون ذلك حجة عليه ومحنة له واختباراً وابتلاء، حتى إذا حوسب يوماً عندما يموت فقيل له: ألم يرزقك ربك؟ ألم يرسل لك نبياً؟ ألم ينزل معه كتاباً؟ فلم لم تؤمن؟ فلا يستطيع جواباً، وإذا به تحل عليه نقمة الله وعذابه.
والمؤمن قد يحصل له الجفاف، ولكنه إذا ابتلي صبر، وإذا أُنعم عليه شكر، وهو على كلتا الحالتين في خير، ففي صبره هو لله عابد، وفي شكره هو لله عابد، ويؤجر على كل الأحوال.
يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ [الفرقان: ٥٠] أي: ليأخذوا من ذلك ذكرى وعبرة، إذ السماء واحدة، والسحب واحدة، وتمطر هذه الأرض ولا تُمطر الأخرى، فما السبب؟ إن الله قسم بيننا الأرزاق كما قسم بيننا العقول، والله جل جلاله قد يبتلي الكافر؛ ليستدرجه بكثرة النعم، وليزداد عذابه وعقابه، وقد يبتلي المؤمن؛ ليزيده رفعة، وليكفّر عنه سيئاته، وقد يكون ذلك من الله جل جلاله لمنفعة للبشر والخلق، فهذه الأرض تُسقى بالآبار وتُسقى بالعيون الجارية، فلو نزل المطر في هذا الحالة لأفسد زرعها، فيكفيها ما تسقى به، وتلك علوية لا يصل إليها الماء إلا إذا نزل من السماء، فمن مصلحتها أن ينزل عليها المطر، وهكذا يرزق الله تعالى من شاء كيف شاء جل جلاله، فلا مكره له ولا معقّب لأمره.
قال تعالى: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: ٥٠] مع هذا الرزق والنعم المتوالية المتتابعة أبى أكثر الناس إلا الكفور، والكفور: صيغة مبالغة من كثرة الكفر وكثرة الشرك والجحود.
وقد نزل النبي ﷺ بالحديبية حين منعه كفار مكة من دخول مكة، وفي ليلة من الليالي أصبحت الأرض كلها غيثاً، فقال النبي ﷺ للصحب الذين كانوا معه: (أتدرون ماذا يقول ربنا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فمن قال: أمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
أي: قال كما يقول الطبائعيون والملاحدة: تحصل الأمطار نتيجة بخار يخرج من البحر فيتكثف في شكل سحب، فلا علاقة لها بأمر ولا نهي، ولا خلق ولا قدرة! فهذا كان نتيجة هذا الكوكب، وذاك كان نتيجة ذاك الكوكب! وهذا ما كان يقوله الجاهليون في جاهليتهم، حيث يقولون: مطرنا اليوم بنوء كذا وكوكب كذا، فمن قال ذلك فهو كافر بالله مؤمن بالكوكب، فقد اتخذ الكوكب إلهه من دون الله.
ومن قال: مطرنا برحمة الله وبإكرام الله فقد أصبح مؤمناً بالله كافراً بالكوكب، وفسّر به النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية: ﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ [الفرقان: ٥٠].