تفسير قوله تعالى: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صماً وعمياناً)
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان: ٧٣].
إن المؤمن خطاء وغير معصوم، ولكنه إذا أخطأ بذنب أو صنع شيئاً أو غفل عن شيء، فإن من تمام صفة الإيمان فيه أنه إذا ذكر بالله تذكر، كما قال ربنا: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: ٥٥].
المؤمن إذا سمع تذكير الله بآية من كتابه، وتذكير رسول الله بكلمة من سنته، وتذكير عباد الله الصالحين بنصيحة تجده إذا سمع ذلك ألقى سمعه واهتم به وعمل بمقتضاه.
وأما المنافقون والفساق فإنهم إذا سمعوا كلمة عن ربهم أمراً أو نهياً كانوا صماً وعمياناً، و (صماً) جمع أصم، و (عمياناً) جمع أعمى.
فالفساق كالأصم، يسمعون ولا يعون، ولا يفهمون، ولا يريدون أن يمتثلوا ولا أن يتذكروا، يرون المذكر، ويرون الداعية، ويرون العالم وهو يأمر وينهى ويذكرهم بالله من كتابه ويذكرهم برسول الله من سنته ﷺ فلا يتعظون، بل إن سمعوا لا يريدون أن يدركوا ولا أن يعوا، وإن نظروا كانوا عمياناً لا يهتدون ولا يعتبرون، فهم صم بكم عمي كما وصفهم الله.
يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾ [الفرقان: ٧٣]، فهم لم يتركوها، ولكن نسوا في عمل من الأعمال أو قول من الأقوال، فإذا نصحوا فسرعان ما يتذكرون، فإذا ذكروا بآيات ربهم، وبسنة نبيهم لم يكونوا صماً ولا عمياناً، بل يكونون سامعين متعظين، ولا يكونوا عمياناً، بل يبصرون الداعي والعالم فيتأثرون بقوله ويعزمون على تنفيذ أمره طاعة لله وطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يكبر عن التذكير أحد في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة؟ فقيل له: لمن؟ فقال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين، وعامتهم) فتنصح أخاك المؤمن، وتنصح أبويك وأبناءك، وإخوتك وأقاربك، وتلاميذك وطلابك، وإخوانك في الله وعموم الخلق، وكما تنصح المؤمن تنصح الكافر إن وجدت عنده أذناً صاغية أو عيناً مبصرة، وقلما يكون ذلك عند الكافر، بل وقلما يكون ذلك عند الظالم وعند المخالف.
فالمؤمن إن رأى تقصيراً في أخيه نبهه عليه، فإن رآه يؤخر الصلاة إلى آخر وقتها نبهه، وإن رآه يصنع شيئاً لا يليق به نبهه، فإذا نبهه وكرر التنبيه فأعرض فله أن يقاطعه في الله وأن يهجره في الله، والهجران في الله لا يقتصر على ثلاثة أيام، بل قد يكون إلى الأبد.
وأما حديث: (لا يحل لمؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث) فالمراد به في شئون الدنيا، أما في أمور الآخرة فلا، فالحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وقد هجر عبد الله بن عمر رضي الله عنه ولده في الله هجرة الأبد إلى الموت؛ لأنه أمره بألا يمنع نساءه من حضور بيت الله، وذكر له حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تمنعوا إماء الله بيوت الله)، فقال: والله لنمنعنهن، وإذا بـ ابن عمر يثور في وجهه ويقول له: أقول لك: قال رسول الله، وتقول: بلى والله لأفعلن! وهجره إلى أن مات ولقي الله وهو هاجر له.
قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان: ٧٣]، فالمؤمن شأنه أن يخر لله راكعاً وساجداً! وهؤلاء الكفار يستكبرون عن أن يخروا لله سجداً وركعاً، وإذا بهم يخرون سجداً لأهوائهم، فيصمون آذانهم عن كلمة الحق، ويعمون أبصارهم عن رؤية الداعي إلى الحق، ولا يقبلون موعظة ولا ينصتون للحكمة.


الصفحة التالية
Icon