تفسير قوله تعالى: (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري)
فوضعت الكتاب ثم التفتت إليهم بعد أن أخبرتهم بالكتاب، فقالت لهم: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٣٢].
فهذا الكتاب قد سمعتموه يا قوم سبأ، ويا أهل مأرب، فأنا أعرض الأمر مرة ثانية عليكم، فماذا ترون؟ وما هو الرأي في الجواب وفي العمل؟ ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي﴾ [النمل: ٣٢]، فاذكروا لي فتواكم، ومشورتكم، ورأيكم في هذا الأمر الذي ابتليت به، وكاتبني فيه سليمان القوي بملكه، والقوي بجنده، والقوي بنبوءته ورسالته.
﴿مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٣٢]، فما كان ينبغي لي وأنتم رعيتي وأعيان دولتي ووزرائي ومستشاري أن أقطع أمراً، وأبت في أمر، وأنهي أمراً، ويصدر عني ما لم تحضروه وتشهدوه وتشيروا علي فيه، فاذكروا لي آراءكم لأستعين بها، ولم كل ذلك؟! لأن شأن الملوك إذا دخلوا قرية حاكمين قاهرين أن يفسدوا فيها، ولذا قال تعالى عنها: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤]، فلو جاءني سليمان وأخذ ملكي وأرضي، فالبلاء لا يخصني، بل سيعم الدولة برجالاتها وكبار موظفيها وكبار مستشاريها، ولذلك أجيبوني بما يمكن أن تجيبوا به أنفسكم، فلو تمت الغلبة وتم القهر وأخذ سليمان الدولة سيكون بلاؤه وإذلاله وسحقه للملكة وأعوانها من وزراء ومستشارين.
قال تعالى: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤]، فلن أقطع أمراً، ولن أبت فيه إلا بعد حضوركم وشهودكم، وأخذ آرائكم.