تفسير قوله تعالى: (قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها)
قال الله جل جلاله: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤].
لا نزال في محاورة بلقيس ملكة سبأ مع مستشاريها وقادتها ووزرائها وأقيال دولتها عندما أرسل لها سليمان عليه السلام رسالة مع الهدهد، يأمرها بأن تأتي وقومها صاغرة مستسلمة، أخبرتهم بذلك، ثم بعد ذلك قالت: ﴿يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ [النمل: ٣٢]، فأجابوها ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾ [النمل: ٣٣].
تميل إلى المسالمة باعتبارها المسئولة الأولى عن مملكة سبأ، فعندما جاءتها رسالة سليمان كانت تسمع عن سليمان نبوءة ورسالة وملكاً عظيماً لم يسبق له نظير، فعرضت الأمر على كبار رجالها واستشارتهم، فتأدبوا معها وقالوا: إن شئت القتال فنحن ذوو قوة، وذوو عدد، وذوو بأس شديد، وذوو أسلحة وقوة وبطش، ولكن الأمر إليك، فما تأمريننا به صنعناه ونفذناه وامتثلنا له، فنبهتهم وهي لا تريد الحرب ولا تريد القتال فقالت: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا﴾ [النمل: ٣٤].
تقول لهؤلاء الذين أظهروا استعدادهم للحرب والقتال ومقاومة سليمان وجنده: ليس الأمر كما تظنون، فمن عادة الملوك أنهم إذا احتلوا أرضاً، أو استعمروا كياناً، يفسدون في الأرض، فالحرب من طبيعتها ذلك، فهم يخربون البلدة، ويهدمون القصور، يرملون النساء، وييتمون الأطفال، ويأخذون أموال البلدة التي يستولون عليها.
﴿وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ [النمل: ٣٤]، والأعزة: جمع عزيز، والأذلة: جمع ذليل، أي: حولوا السادة والأعزة والقادة والكبار في القرية والبلدة التي يدخلونها إلى أذلاء، فيجعلون عاليها سافلها، فيعزون الذليل ويذلون العزيز.
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٣٤].
قال بعض المفسرين: هذا قول الله جل جلاله، فما توقعته هو الذي سيكون، على أن سياق القصة لا يقتضي هذا، فهي لا تزال تحاور قادتها ويحاورونها، وتقول لهم ويقولون لها، والكلام قبلها والكلام بعدها هو من قولها وكلامها، ولذلك قالت بعد ذلك: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ﴾ [النمل: ٣٥].
فأرادت المصانعة وأرادت السياسة، فلم ترد حرباً ولا قتالاً، ولا هي قادرة على حرب سليمان ذي الطول والحول فيما ملكه الله إياه من جند من الجن ومن الإنس ومن الطير.
فجملة ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [الشعراء: ٧٤] من قولها، ولو كانت من قول الله لتم الأمر، على أن سليمان لم يدخل إلى اليمن، ولم يحتل أرضها، ولم تجبره على ذلك، بل جاءت مستسلمة، موافقة على أمر سليمان لها بأن تأتي هي وقومها، فلم تبق حاجة هناك إلى احتلال بلدها، فقد وافقت واستسلمت، بل وآمنت وأسلمت، ولم تبق على عبادة الشمس كما جاء الهدهد يخبر ويعلن.


الصفحة التالية
Icon