تفسير قوله تعالى: (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها)
قال الله تعالى: ﴿فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الكهف: ٧٧].
لما انطلق الخضر ومعه موسى وصلا إلى هذه القرية جائعين لا زاد معهما، وإذا بـ الخضر وموسى يطلبان من أهل هذه القرية الغداء أو العشاء، فطلبا منهم الضيافة فامتنعوا وكانوا لئاماً، ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ [الكهف: ٧٧] أبوا ضيافتهما وإكرامهما، وهما نبيان مكرمان: نبي الله موسى وهو من أولي العزم، ونبي الله العبد الصالح الخضر.
فقام الخضر إلى جدار يريد أن ينقض، أي: يوشك أن ينهار، وإذا بـ الخضر يبني الجدار على الحائط بناءً جديداً.
قال أبو هريرة: هذه القرية كانت مدينة في الأندلس، وهي خلف الضفة الثانية الملاصقة للصخرة التي سميت بعد ذلك بجبل طارق، حيث دخل منها طارق بن زياد المغربي البربري فاتحاً قبل مولاه موسى بن نصير للأندلس.
قالوا: والذي أطعم الخضر وموسى وأضافهما امرأة مغربية من البربر، فدعا موسى والخضر على أهل هذه القرية، ودعوا لهذه المرأة بالبركة وفيضان البركة؛ لما تحلت به من الكرم والجود.
وذكر في التاريخ أن الأندلس اشتهرت قديماً وحديثاً، سواء في عصر الإسلام وقد عاشت ثمانية قرون، أو بعد ذلك وهي عائشة فيه منذ خمسمائة عام في الكفر والردة والنصرانية، فقد اشتهر الأندلسي واليوم الأسبان والبرتغال باللؤم والجوع والبخل، وهذا مما يؤكد أن المدينة كانت أندلسية.
ودعا الخضر وموسى للمرأة البربرية المغربية، وقد اشتهر المغرب قديماً وحديثاً وإلى الآن بالكرم والجود ومد الموائد، الفقير منهم والغني سواء.
قوله: ﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ﴾ [الكهف: ٧٧] أي: أن ينهار ويسقط ﴿فَأَقَامَهُ﴾ [الكهف: ٧٧] أي: أتم بناءه، وإذا بموسى مرة ثالثة ينزعج ويقول: (لو شئت لاتخذت عليه أجراً)، يعني: هؤلاء اللئام الذين منعونا الضيافة ومنعونا الطعام والغداء والعشاء، فتأتي أنت فتبني لهم هذا الحائط ويكلفك وقتاً وزمناً، وتسعى في حجارته وفي طينه وفي ملاطه، وكل هذا دون أجر، وهم لا يستحقون ذلك مع لؤمهم وبخلهم؟! وإذا بـ الخضر يحكم على موسى تنفيذاً لحكمه على نفسه: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] أي: الآن سأخبرك بأسرار وبواطن وتأويل وشرح وبيان هذه القضايا الثلاث التي لم تستطع صبراً على واحدة منها.
قال النبي عليه الصلاة والسلام هنا: (رحمنا الله وموسى، لو صبر على الخضر لأعطانا من علومه ومن عجائبه) ولكن موسى لم يصبر، وكان يمكن أن يصبر، لكن هي الحكمة الإلهية في المغزى، وكان يمكن أن تكون واحدة، لكن الله ثناها وثلثها لتكون الحجة والحكمة البالغة.
ومغزى القصة من الأصل: أن موسى عندما سئل: من أعلم منك؟ قال: لا أعلم، فقال الله له: بلى عبدنا الخضر، وعاتبه الله ولامه لِمَ لم يسند الأمر إليه ويقول: الله أعلم؟ فالله تعالى أراد أن يؤدبه تأديب الرب الخالق للمخلوق، والله يصنع ما يشاء مع عباده كيف شاء، فيأمر الله تعالى موسى رسول الله أن يسافر من المشرق إلى المغرب شهوراً وشهوراً، ويكابد تعباً ونصباً وجوعاً وعطشاً، ويكون تابعاً طالباً متتلمذاً متأدباً مع الخضر أدب الطلاب مع الأساتذة والمدرسين.
ومع ذلك لم يصبر لا على واحدة ولا اثنتين ولا ثلاث، ولكن عندما أخذ الخضر يؤول أعماله ويفسرها ويذكر باطنها وحقائقها، قبل موسى منه ذلك؛ لأن الله أمره بذلك، وهو الذي أشاد به الخضر أن الله جل جلاله آتاه علماً من لدنه، ولا يسع العبد إلا أن يمتثل وينفذ أمر الله.
قال: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] أي: سأخبرك حقيقة الأمور الثلاثة التي استنكرتها واستغربتها.