تفسير قوله تعالى: (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون)
قال الله جلت قدرته: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: ٧٦].
كتاب الله هو القرآن الكريم خاتم الكتب السماوية المنزل على خاتم أنبياء الله ورسله نبينا صلوات الله وسلامه عليه، فهذا الكتاب هدى للناس، ونور يبدل الظلمات ويدعو إلى التوحيد وعبادة الله الواحد الخالق، ويمنع الناس من عبادة الأوثان والأصنام، وهو مع ذلك يقص على بني إسرائيل ويعلمهم ويبين لهم حقيقة ما اختلفوا فيه فيما بينهم، ويبين لهم ما نقلوا فيه الحق إلى الباطل، وما حرفوا فيه كتاب ربهم إلى خزعبلات وأباطيل ما أنزل الله بها من سلطان.
فكتاب الله القرآن الكريم يذكر قصصاً وأحكاماً، ويذكر حقائق بينات يعلم فيها بني إسرائيل ما اختلفوا فيه وتنازعوا فيه، فبين لهم أكثر خلافهم، وأكثر ما تنازعوا فيه باللسان والسيف، والعداوة بينهم دائمة منذ آلاف من السنين إلى يوم الناس هذا.
وبنو إسرائيل هم اليهود والنصارى؛ لأن التوراة أنزلت على موسى وهو من أنبياء بني إسرائيل، والإنجيل أنزل على عيسى وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكلاهما لم يؤمرا إلا بتبليغ بني إسرائيل، ولم يرسلا إلا إلى بني إسرائيل، وقد بعث موسى أولاً، وبعد دهور جاء عيسى قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بقرابة ستمائة عام، فبنو إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى قد اختلفوا اختلافاً بيناً، وتنازعوا في اختلافهم بكل ما يملكون من أنواع العداوة والحرب والقتال.
وعيسى لم يرسل إلى غير اليهود من بني إسرائيل، فلقد قال في الإنجيل: (إنما أرسلت إلى خراف بني إسرائيل خاصة)، وأكد هذا المعنى كتاب الله في قوله: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ [الصف: ٦].
فهو لم يرسل إلا إليهم، ولذلك يقول ربنا هنا في شأن بني إسرائيل أتباع موسى وعيسى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: ٧٦].
فهم قد اختلفوا وغووا في عيسى، فقال بعضهم: إن عيسى ليس ابن طاهرة وليس نبياً ولا رسولاً، فأفكوا وكذبوا وافتروا على الله، وشتموا نبياً من كبار الأنبياء ومن أولي العزم منهم.
وبعضهم فرطوا وتجاوزوا الحد، وزادوا ما لم يؤمروا به، ولم يقل لهم على لسان عيسى ولا على ألسنة علمائهم، فزعموا أن عيسى هو الله، وزعموا أن عيسى ابن الله، وزعموا أن عيسى ثالث ثلاثة، وكذبوا على الله وتجاوزوا الحد في مقامه وفي رتبته.
فهؤلاء غلوا وضلوا وأولئك غووا وضلوا، هؤلاء غلوا فزعموا الإلهية في عيسى، وأولئك غووا فزعموا عن عيسى ليس ابن طاهرة عفيفة، فجاء كتاب الله جاء القرآن الكريم فبين هذا الخلاف وقال الحق، وقال: زعم اليهود أنهم صلبوا عيسى، وزعم النصارى بأنه فعل ذلك عن اختيار منه بما سموه الفداء والصلب، وأنه فدى البشرية من ظلمها وعتوها، فكذبوا وافتروا، فجاء القرآن الكريم حاكماً بينهم مبيناً الحقائق بوضوح، ومبيناً الحق الذي لا يقبل غيره، فقال: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: ٥٩].
فكان بأمر الله، وبقول الله: (كن)، فبين الله جل جلاله الحقيقتين اللتين طالما تخاصم فيهما بنو إسرائيل من أتباع موسى وأتباع عيسى، فقال رداً على من زعم عيسى إلهاً أو زعم كونه ابن غير عفيفة: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: ٥٩].
فكما خلق آدم بلا أب ولا أم، خلق عيسى من دون أب، وتلك قدرة الله، فليس بينه وبين أن يكون الشيء إلا أن يقول: (كن) فيكون.
وقال عن الصلب والفداء: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ﴾ [النساء: ١٥٧] فقتلوا شبيهاً زعموه عيسى، وعيسى لم يقتل، فلم يكن ثم فداء ولا صلب، وإنما هي أباطيل وأكاذيب ما أنزل الله بها من سلطان، اشتغلت بها آراؤهم وضلت بها عقولهم، فجاء القرآن يبين لهم الحقائق، فهدى الله بعضهم، كـ عبد الله بن سلام الذي أسلم وحسن إسلامه، وقلة معدودة على الأصابع، فكانوا أصحاب رسول الله ﷺ الصادقين في إيمانهم، والصادقين في صحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [النمل: ٧٦] أي: يذكر من القصص ومن الأحكام ومن الحقائق والبراهين ﴿أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: ٧٦]، فيزيل حيرتهم، ويزيل خلافهم وأباطيلهم، وذاك لمن قبل الهدى، وأنار الله بصيرته، وإلا فأكثرهم بقوا على غوايتهم، وعلى ظلمة الشرك وظلمة الكفر والوثنية والتكذيب، فحرفوا كتب الله السابقة، ولم يؤمنوا بكتاب الله اللاحق.


الصفحة التالية
Icon