تفسير قوله تعالى: (طسم)
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ١ - ٣].
هذه السورة مكية إلا آيتين أو ثلاثاً وعدد آياتها (٨٨) آية.
وهناك آية واحدة نزلت بين مكة والمدينة عندما كان نبينا عليه الصلاة والسلام مهاجراً من مكة مسقط رأسه وبلد قومه وعشيرته، عندما اضطره كفارها إلى تركها والخروج عنها خروجاً أبدياً إلى يوم القيامة، فحُرموا بركته ورسالته، ولكن الله بعد ذلك أكرم كثيراً منهم بالإيمان، فتم الشرف لأهل مكة والمدينة بالإيمان برسول الله ثم حرّمها على الكافرين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
خرج الكفر منها خروجاً أبدياً، ولن يعود بحكم الله، على أن يكون له الشأن ما دامت الدنيا ودام الإسلام، أما في أُخريات الزمان وعند قيام الساعة فتلك لها حكم، وتأتي في كتاب الله، وقد أتت مرة.
أما الآية التي نزلت في الطريق بين مكة والمدينة فإنها نزلت في الجحفة ميقات أهل المغرب، وهي ما تسمى اليوم (رابغ)، وهو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [القصص: ٨٥] فكانت هذه الآية وحدها تُعتبر مدنية مكية، لا مكية خالصة، ولا مدنية خالصة، ولكن تُعتبر بينهما، فقد نزلت في الطريق بين مكة والمدينة.
قال تعالى: ﴿طسم﴾ [القصص: ١] أي: طاء سين ميم، هذه الأحرف الهجائية التي طالما تحدثنا عنها وقلنا: إن المفسرين قديماً وحديثاً تنازعوا واختلفوا في معناها؟ فقال البعض: هي أرقام حسابية، ولا دليل لهم، وقال البعض: هي أسماء إلهية ورموز، ولا دليل لهم إلى غير ذلك من الأقوال.
والأقرب للحق والصواب ما قاله الزمخشري في كشافه وسانده وأيده مفسِّر مُعاصر - أعني الشيخ الشنقيطي، وتفسيره بين التفاسير المعاصرة من أحسنها ومن أكملها دليلاً وبرهاناً - حيث قالوا: القرآن مُعجز وهذا معلوم من الدين بالضرورة علمناه علماً واقعاً تحدى الله البشر والخلق أيام نزول القرآن على سيد البشر وسيد العرب ﷺ وعلى أقوامه، وكانوا الفصحاء والبلغاء، وكانوا أمراء الكلام شعراً ونثراً، وكان القرآن قد نزل بلغتهم.
فالقرآن تحداهم وأعجزهم على بلاغتهم أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، أو يأتوا بآية من مثله.
نبي الله أُعطي جوامع الكلم عليه الصلاة والسلام، وهو أفصح العرب على الإطلاق، ومع ذلك إذا تكلم النبي ﷺ من قِبل نفسه قلت: هذا كلام بليغ فصيح؛ ولكنك إذا قرأت القرآن تجد الكلام المعجز، والكلام الأبلغ والأفصح.
فهو عندما يتكلم بالقرآن يكون في رتبة المتكلم بكلام الله والتالي لكلام الله؛ فإذا تكلم وتحدث عن نفسه وبقوله ينزل رتبة عن ذلك، ومعناه أن القرآن فيه تعجيز للخلق أنبياء ورسلاً وملائكة وبلغاء.
ومعنى معجز: أي: أعجز البشر، ومسيلمة الكذاب عندما ادعى النبوة في الحياة النبوية ذهب يقول: أنا كذلك أوحي إلي، وأخذ يتلو على الناس كلاماً يقول هو قرآنه، وكان من الهراء والسخف، ومما يضحك الثكلى ما كان يقول: أوحي إليّ، فتارة كان يقول: قسمت الأرض بيني وبين قريش، ولكن قريشاً قوم لا يعدلون، الطاووس وما الطاووس؟! والذبابة وما الذبابة؟! لها شعر ولها ريش! وأخذ يهذي هذا الهذيان؛ ولا يزال ذلك مسجلاً في الكتب ليضحك به الثكلى.
وقالوا عن المعري الشامي أنه حاول كذلك في اللزوميات أن يعارض القرآن، وقد دافع عنه قومه، وعلى كل اعتبار قصد ذلك أو لم يقصده أين اللزوميات في فصاحتها وبلاغتها، وأين فصاحة النبي عليه الصلاة والسلام؟ بل أين فصاحة القرآن وبلاغة كلام الله المعجز؟ وهنا سيقول قائل: القرآن نزل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك فما معنى الإعجاز؟ فإن الله زيادة في التحدي ابتدأ الكثير من السور: ﴿الر﴾ [الحجر: ١] ﴿الم﴾ [البقرة: ١] ﴿حم﴾ [غافر: ١] ﴿يس﴾ [يس: ١] ﴿طسم﴾ [القصص: ١] الأحرف هي أحرف الهجاء الثمانية والعشرين، وكأن الله يقول: هذا القرآن حروفه المتكونة منه، القائمة على جمله وتعابيره، هذه هي الحروف العربية: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ [يوسف: ٢] لكن أتستطيعون أن تفعلوا ذلك، والحروف أمامكم واللغة طوع يدكم؟ ولذلك لا تكاد تجد هذه الأحرف إلا وذُكر القرآن بعدها: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ﴾ [البقرة: ١ - ٢] وهنا: ﴿طسم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [القصص: ١ - ٢].