تفسير قوله تعالى: (إن فرعون علا في الأرض)
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤].
يخبرنا ربنا جل جلاله عن فرعون حاكم مصر مدّعي الألوهية الظالم الغشوم الذي عوقب على ظلمه ودعواه الألوهية بالغرق مع جنده وملئه وقومه، وأنه علا في الأرض وتجبّر وطغى وتكبّر وتعالى على عباد الله، وجعل أهل مصر شيعاً وأحزاباً وفرقاً، فهو من النوع الذي يطبق المثل الدارج: فرّق تسُد، وهذا مبدأ استعماري ظالم اتخذه فرعون مصر الأول وغيره من فراعنة العصر الذين طالما طغوا وعلوا في الأرض استعباداً واستصراخاً وإفساداً، فكان أول ما صنع فرعون حتى لا تجتمع عليه شعوب الأمة فيقضون عليه ويثورون في وجهه ويخلعونه عن ألوهيته الكاذبة، أن جعل أهل مصر فرقاً وشيعاً وطوائف يضرب بعضها بعضاً ويلعن بعضها بعضاً ويتآمر بعضها على بعض ليبقى وحده الحاكم المتسلط.
وجاء إلى فئة من شعبه وهم بنو إسرائيل ووجدهم ضعافاً أذلاء فاستضعفهم، فاستعبد رجالهم ونساءهم وحمّلهم ما لا تطيقه الجبال ذلاً وهواناً وخدمة، فكانوا يقومون بالمشاق والمتاعب من صناعة وزراعة وإصلاح شوارع والقيام بالدور، أما الأقباط قوم فرعون فهم وحدهم المرفّهون المنعّمون بما خلق الله في الأرض من خصب ومن نعم ومن زروع ومن ثمار.
ولم يكفه ذلك الاستضعاف والاستعباد والاستذلال لبني إسرائيل، فذبّح أبناءهم الذكور عندما يولدون، وترك البنات أحياء فلا يقتلهن؛ وذلك لأنه رأى في المنام أن هلاك ملك الفراعنة الأقباط في مصر سيكون على يد وليد من بني إسرائيل، فاتصل بالكهان وبمن يعبّر الرؤيا فعبّروها بأن طفلاً من بني إسرائيل ممن استذلوا واستعبدوا للفراعنة والأقباط سيولد وسيكون سبب هلاك فرعون وخلفائه وقومه من الأقباط على يده، فيغضب غضباً شديداً فيأمر بقتل كل وليد ذكر لإسرائيلية عبرانية فبقي على ذلك زمناً يرسل الذبّاحين والقوابل، عندما يعلمون بحمل امرأة من بنات بني إسرائيل، فيرقبونها إلى وقت المخاض فتدخل القوابل من الأقباط فيقمن بتوليدها، وبعد ذلك يدخل الذبّاحون فيذبحون ذلك الوليد إن كان ذكراً.
ومضى على هذا سنوات وإذا بالأقباط يضجّون ويرفعون شكوى لـ فرعون قائلين: يوشك أن يموت شيوخ بني إسرائيل ولا يشب بينهم شاب لأن الصبيان يقتلون عند ولادتهم، وإذ ذلك يفقد العبيد من بني إسرائيل، فيضطرّون للقيام بما كان يفعله عبيدهم من صناعة وزراعة والقيام ببناء الدور وما عليها، وإذا بـ فرعون يأمر بأن يُترك أولاد بني إسرائيل عاماً ويذبّحون عاماً، وكان هذا من أمر الله الذي خطر بباله ليحصل ما يحصل لموسى.
فولدت أم موسى وليداً وهو هارون في العام الذي لا ذبح فيه لأولاد بني إسرائيل، فكشفته للقوابل والذبّاحين من الأقباط فتركوه، وإذا بالسنة التالية تلد موسى فكان فزع أمه بولادته ذكراً فزعاً عظيماً إذ هي السنة التي يُقتل فيها ما يولد لبني إسرائيل من الذُكران، فاشتد الحال بأم موسى وحارت ما تصنع، وسيقص الله علينا في سياق القصة ما أوحى به لها وما أمرها به.
فقوله تعالى: ((يُذَبِّحُ)) هذا من زيادة المبنى التي تدل على زيادة المعنى، ولو كان الذبح عادياً لقال: يذبح أبناءهم بدون تشديد، ولكن الذبح كان كاملاً ومكتملاً، وكان فرعون حريصاً عليه أشد الحرص، وكان الذبح شديداً إلى أن تُفصل الرؤوس عن الأجساد، وكان لكل حامل إسرائيلية جاسوس إذا هي ولدت ذكراً ولم يُذبح وليدها.
وقوله تعالى: ((إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)) أي: كان فرعون من المفسدين في الأرض، وكان من العتاة والطغاة الظالمين، وكان ممن تأله وزعم الألوهية.