تفسير قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض)
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٥ - ٦].
هاتان الآيتان الكريمتان فيهما مقدمة لما يريد الله تعالى أن يجعله لبني إسرائيل إذ أكثر فيهم الأنبياء، وكانوا خير الأمم بصلاتهم وعبادتهم ودينهم، ولكنهم خرجوا عن أمر الله فبغوا وطغوا، فتركوا الأمر بالمعروف وقاموا بالأمر بالمنكر، وانتشر الفساد بينهم فعاقبهم الله بالتشريد والتدمير وعبّدهم لـ فرعون وخلفائه، وللأقباط من قبله وسلالاتهم وذريّاتهم، جزاءً وفاقاً على كفرهم بنعم الله، وعلى الكفر بعد الإيمان، وعلى الظلم بعد العدل والإيقان.
ولكن بعد أن عذّبهم الله وعبّدهم وحمّلهم الشدائد التي لا يكاد يحملها إنسان إلا مرغماً ذليلاً مستضعفاً مستعبداً، أراد الله بعد ذلك أن يرحمهم ويجدد الرسالة لهم ويبعث لهم موسى وهارون فقال تعالى: ((وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ)): يذكر ربنا أنه يريد ولا راد لإرادته، وإرادته أمر وخلق، وإرادته من ذاته جل جلاله يفعل ما يشاء وينفّذ ما يشاء له الخلق وله الأمر.
والآية نزلت من أجل بني إسرائيل المستضعفين عند أقباط مصر، فمنّ الله عليهم وأكرمهم وأنقذهم من طغيان الفراعنة ومن ذل الأقباط؛ فنقلهم من العبودية إلى السيادة، ومن الخدمة إلى المخدومية، ومن الرعية إلى الحكام والملوك.
فقد كانوا مستضعفين محتقرين لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلاً ولا ضيماً من فرعون وملئه، فكانوا يذبّحون أطفالهم ويتركون بناتهم، ويستعبدون شبابهم وشيوخهم ونساءهم في أذل عمل وأقساه وأصعبه، وقد استجاب الله دعوة الصالحين من بني إسرائيل أيام فرعون المتأله وأيام حكم الأقباط، وكان هذا قبل الإسلام بآلاف السنين، فجعلهم ربنا أئمة: جمع إمام، أي: حكّاماً وملوكاً ومتحكمين في أرضهم وفي شعوبهم وفي أمورهم لا يبقي للفراعنة عليهم حكم ولا سلطان، وأورثهم أرض مصر، وما كان فيه فرعون من نعم وخيرات، ومن زروع وأنعام وخصب، ومن أمر ونهي، ويعيد الكرة لهم على الأقباط الفراعنة كما سيقص الله علينا في بقية القصة إلى آخر السورة.


الصفحة التالية
Icon