تفسير قوله تعالى: (فجاءته إحداهما تمشي على استحياء)
يقول تعالى: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ﴾ [القصص: ٢٥].
معناه: ذهبتا وقصّتا على أبيهما قصة هذا الرجل الغريب، واستنكر أبوهما أن تأتياه مسرعتين على خلاف عادتهما؛ لأن وقت السقي كان يستغرق منهما اليوم كله، وإذا بهما لم يكادا يغيبان أكثر من ساعة أو ساعتين فعادا والأغنام شاربة ومكتفية، والمياه معهما لسقي البيت فقال لبنتيه: ما خطبكما؟ فأخبرتاه أن رجلاً غريباً صادفنا على فم البئر فسقى لنا وحمل من الصخر ما حمل إلى أن اكتفينا، وذهب يستظل تحت ظل شجرة وهو في أسمال بالية، وفي نعل ممزقة، فصاح لربه يدعوه ويقول: على ما أكرمتني من خير وسعادة أنا فقير يا رب.
وإذا بأبيهما يرسل إحداهما إلى موسى يدعوه: ﴿فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [القصص: ٢٥].
بلّغت البنتان أباهما، فأرسل أبوهما إحداهما فجاءت إلى موسى على حياء وخجل قال عمر بن الخطاب: جاءت وعيناها في الأرض، وكمها يستر وجهها قال هذا عمر من أين؟ لعله سمعه من أحد ولم يروه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن نحترم قول عمر ونقول: جاءته إحداهما تمشي على استحياء، فالشأن فيها أن تكون هكذا، جاءت في حياء النساء كما وصفها عمر قال: ليست بولّاجة وخراجة، وليست من النساء اللاتي يتجرأن على الرجال في كلامهم، وفي الأخذ معهم، وفي المفاوضة لهم، جاءت وهي بكر عذراء يغلبها حياؤها، أخذ هذا من قوله تعالى: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
وكانت مهذّبة فلو قالت له: اذهب معي أنا أدعوك لظن بها السوء ولما استجاب لها، ولكن من أول مرة ذكرت الدعوة وسببها، وإلا كيف يدعوني هذا الرجل وأنا لا أعرفه وهو لا يعرفني وأنا رجل غريب؟! إذاً هذه حيلة من البنت تُريد أن تختلي بالشاب، ولكن لذكائها ذكرت الدعوة وسببها: (قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا).
قوله: (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) جاء موسى ودخل بيت والد هاتين البنتين، وقص عليه قصته مع فرعون، وقتله للقبطي وقذفه للنيل وهو لا يزال رضيعاً في أيامه الأولى، وقتل فرعون لفتيان وأطفال بني إسرائيل، وهأنذا بعد ذلك كله قد جئتك (فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَص) قال والد البنتين: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).
أي: أنت الآن في غير حكم فرعون، ولست في أرض مصر، ولا سلطان لهم عليك ولا علينا هنا، ولا على هذه الأرض، فقد نجّاك الله واستجاب دعاءك.
وإذا بالبنتان وقد أراحهما موسى بالأمس عزّ عليهما أن يُترك هذا الغريب جائعاً محتاجاً، وأن تبقيا على سقيهما للأغنام، وهذا الشاب القوي غريب شريد طريد لا أهل له، فلم لا يكون معهما في البيت ومع أبيهما؟