تفسير قوله تعالى: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور ناراً)
قال الله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ [القصص: ٢٩].
هذه المرحلة الثالثة من مراحل موسى عليه السلام في قصته المفصلة في هذه السورة من كتاب الله، ففي المرحلة الأولى فسّرنا الآيات الواردة في ولادة موسى ورضاعه وعودته لأمه بعد أن كاد يُذبح أو يغرق في النيل، ثم نشأته في بيت فرعون إلى أن أصبح شاباً يافعاً لا يُعرف إلا بموسى بن فرعون، إلى أن صار يخرج للأسواق، فقتل قبطياً انتصاراً وإغاثة لإسرائيلي من عشيرته وأتباعه وأنصاره، كان بعد ذلك أن خرج من مصر خائفاً يترقب، فيذهب إلى مدين على بعد ثلاثة أيام من مصر، إلى بلد آبائه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، ومدين هو ابن إبراهيم.
ذهب موسى تائهاً لا يعرف طريقاً فطلب من ربه أن يهديه سواء السبيل، فهدي إلى مدين، وبعد أن خدم من سمي شعيباً وسمي بغير ذلك من الأسماء، فزوجه إحدى ابنتيه وأقام عنده عشر سنين كاملات، ثم بعد تمام هذه السنين أراد أن يخرج من عنده مستقلاً بنفسه مخرجاً لأهله معه وقد أصبح أباً، فهو خارج لا يدري أين يذهب؟ أيعود إلى مصر وقد خرج منها خائفاً من فرعون وملئه أن يقتلوه بالقبطي أو يذهب إلى جهة أخرى؟ وما هي؟ وبينما هو خارج في ليلة شديدة البرد خرج وهو لا يعرف طريقاً ولا يهتدي لمسلك من المسالك؛ وهذه ابتداء المرحلة الرابعة.
قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَل) لقد شارط موسى شعيباً أن يبقى عنده ثمان سنين أو عشر سنين، وبقاء السنتين تكملة العشر فضل من عنده، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: (ما الأجل الذي قضى موسى؟ فقال: قضى أوفاهما وأكرمهما) أي: أتم عشراً، قضى موسى عشر سنوات من رعيه لغنم صاحب مدين، ومن القيام بحاجته رعياً وزراعة وما يحتاج إليه.
وقوله: (وَسَارَ بِأَهْلِه) أي: أن موسى ترك ختنه وصهره وصحب زوجته وأهله، والأهل كلمة أول ما تُطلق على الزوجة وتشمل مع الزوجة الأولاد والخدم والحشم، ومن تجمعه دارك من أقارب.
وقوله: (آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا) أي: أبصر نوراً من بعيد، ولا شك أن الوقت كان ليلاً، وإلا قلما تُرى النار من بعيد في النهار المنير المشرق، فموسى لما رأى النار ومعه أهله وهم على غاية ما يكونون من البرد والزمهرير، (قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) أي: أقيموا وانتظروني، (إِنِّي آنَسْتُ نَارًا) أي: لقد رأيت ناراً من بعيد.
(لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: انتظروني وارتقبوا عودتي، سأذهب إلى هذه النار لعلي أجد عليها قوماً أو أي إنسان يرشدني إلى الطريق، وإلا جئتكم من هذه النار بجذوة وبقطعة وبجمرة، وفي اللغة: جَذوة وجُذوة وجِذوة مثلثة الجيم، (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) أي: لعلكم تستدفئون بها فيزول عنكم الزمهرير وشدة البرد، فذهب موسى وإذا به وجد شجرة تشتعل على شدة اخضرارها والنار لا لهب لها ولا دخان ولا خشب ولا شجر يحترق، ولكنه النور.
عندما طلب موسى رؤية ربه ماذا قال له ربه؟ ﴿قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] فلم يستقر الجبل وتجلى ربه له فجعله قاعاً صفصفاً ولم يبق هناك جبل لم تبق إلا أرض لا أمت فيها ولا عوجاً ﴿وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: ١٤٣].
فموسى عليه السلام وجد النور بدل النار.