تفسير قوله تعالى: (وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري)
قال الله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: ٣٨].
قال قولته الفاجرة التي تهتز لها الأرض استنكاراً واستقباحاً واستهجاناً، وقال في آية أخرى: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى﴾ [النازعات: ٢٤] ليس إلهاً فقط بل الإله الأعلى، وهو عندما يستدل على ألوهيته يقول: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ [الزخرف: ٥١] ليس العالم كله، وإنما له شيء من الماء اسمه النيل، فأين هو من البحر الأبيض ومن البحر المحيط؟! إذا قيس النيل بالبحار فما هو إلا قليل، أما إذا قيس بالمحيط فلا قياس.
وقال فرعون لملئه ولقادة دولته ولضباطه ووزرائه وهم بمحضر موسى وهارون: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: ٣٨] و (من) إذا دخلت على النكرة عمت، أي: ليس هناك إله ألبتة إلا هو، وكما قال تعالى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ [الزخرف: ٥٤].
استخفهم وأضاع عقولهم وأذهب وعيهم، فأطاعوه على أنه رب وإله، قال: لا أعلم لكم من إله غيري، ثم التفت إلى وزيره هامان فقال له: ﴿فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: ٣٨].
أي: يا هامان اصنع لي آجراً بالنار واجعل آجرة على آجرة، ثم بعد ذلك اجعل لي صرحاً أي: قصراً ومنارة عالية لأصعدها، وأطلع إلى إله موسى أين هو؟! ثم قال: ﴿وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [القصص: ٣٨].
ومن أول مرة قال: سأصعد وسوف لا أجده، مع أن الله معه: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد من الذي أحياني وأحياكم؟ من الذي أمدني بالحركة وبالقوة وأمدكم؟ من الذي جعل الليل سكناً والنهار مبصراً؟ من الذي خلق السماوات؟ من ومن؟ سنبقى نقول: من إلى يوم القيامة ولم تنته من! فالله تراه في كل شيء، فالكل خلقه، والكل أمره، والكل أثر من آثاره، وكان الله ولا شيء معه، وهذا الكون لم يكن موجوداً، ولم يكن هناك أحد، فخلق أبانا الأول من تراب، وأمنا من ضلع آدم، ثم خلقنا من ماء دافق، من صلب الأب ومن رحم الأم، واختص عيسى بأن خلقه من الأم بلا أب.
من الغريب أن يخطر ببال إنسان في الأرض أن يدعي الألوهية، نعم، قد يدعي المرء الملك أو الجاه فهذا ممكن، أو يدعي العلم أمام الجهال فيظنونه عالماً، أو يدعي المال والغنى فقد يسرق ويخطف ويأخذ أموال الناس، أما أن يدعي الألوهية وأنه يحيي ويميت فلا!! وقد سبقه نمرود عندما ذهب إليه إبراهيم يدعوه لعبادة الله وقال عن ربه: إنه يحيي ويميت، فقال نمرود: أنا أحيي وأميت، كيف ذلك؟! يأتي بالإنسان فيقتله فيقول: أنا أمته، ويأتي بآخر يريد قتله فيتركه من القتل فيقول: أحييته، فقال إبراهيم: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ﴾ [البقرة: ٢٥٨] أي: أن الله يخرج الشمس من المشرق فائت أنت بها من المغرب، ﴿فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾ [البقرة: ٢٥٨] صار كالأبله والمجنون.
إذاً: أرسل الله الرسل إلى البشر؛ ليعلموهم عبادة ربهم وتوحيده، وأنه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته ولا في أفعاله.


الصفحة التالية
Icon