تفسير قوله تعالى: (وما كنت بجانب الغربي)
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: ٤٤].
هذا من ظواهر المعجزات التي أتى بها نبينا عليه الصلاة والسلام التي ينص عليها الله في كتابه؛ ليعيها الشاك والمرتاب والمتردد، وليزداد بها المؤمن إيماناً وإيقاناً وثباتاً في الله وفي دينه.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ﴾ [القصص: ٤٤].
أي: يا محمد! لم تكن حاضراً في الجانب الغربي جانب الطور وجانب الشجرة والبقعة المقدسة المباركة التي نادى فيها الرب جل جلاله عبده موسى، فكلمه وشرفه وأرسله، فأنت لم تكن حاضراً، ولم تكن من الشاهدين ولا من الحاضرين، ومع ذلك أنت الآن علمت ذلك كما لو كنت شاهداً وحاضراً، وأمتك لم تكن أمة قارئة، بل كانت أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولم ينزل على أمتك وشعبك قبلك نبي ولا كتاب، وها أنت ذا تتكلم بالحقائق، وتتحدث عن الأنبياء السابقين منذ آدم إلى نوح إلى موسى وعيسى عليهم السلام، بما كانوا عليه من حقائق، وبما عاشوا فيه من واقع، وتتحدث عن الدنيا منذ كانت، إلى أن وصلت إليك، إلى ما بعدك وإلى يوم القيامة، وأنت لم تكن حاضراً هذا مع موسى؛ لأنك لم تكن خلقت بعد، فبينك وبينه الآلاف من السنين، فلم يكن ذلك إلا وحياً وإنباء وإخباراً من الله؛ لتعلمها أنت وتعلمها لهم ولغيرهم.
أفلا يكفي الكافرين من العرب والعجم من السابقين في عصر النبي ﷺ ومن يأتي بعدهم إلى يوم القيامة أن يروا هذا الرجل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يأتيه الوحي في غار حراء، فإذا به ينطق بالحكمة ويقول الحقائق والعلوم التي لم يعلمها سابق ولا لاحق؟ فمن أين ذاك؟ أعلمه الناس كما زعم بعض الكافرين قديماً وحديثاً، فقد زعموا أن حداداً كان في مكة هو الذي علمه، وهو لا يكاد يبين بالعربية، ونبينا لا يعرف سواها، وهذا الحداد ما عسى أن يعرف أو يعلم، فهو جاهل ولا يكاد يعلم ما في يومه فضلاً عن أمسه وعن مستقبله، وهذا الذي أتى به من المعارف والحقائق وما فرض على الناس يؤمن به من أصلح الله قلبه وغسله من الشرك والظلمات والكفر والعناد على الكفر.
وفي عصرنا هذا كتب أحد النصارى الفرنسيين كتاباً قارن فيه بين القرآن والتوراة والإنجيل، وقال: كل ما جاء في التوراة فقد حرف، والإنجيل قد حرف، وكل ما أتى به هذان الكتابان التوراة والإنجيل يخالف الحقائق والعلوم والواقع، إلا القرآن فما نطق القرآن بشيء عن السماوات والأرض وأنباء الأنبياء السابقين والأديان السابقة إلا وهو حق وصدق أيدته الكتب السابقة والعلم الحديث والحفريات على الآثار التي اكتشف بها الكثير مما كان يجهله الناس، وهكذا الله جل جلاله يلفت أنظار العقلاء والذين يبحثون عن الحقائق؛ ليعيشوا مع الحق والواقع، لا مع الأوهام، والأكاذيب والأباطيل والأضاليل.
وفكر يوماً أيها المشرك الكافر! من أين لمحمد العربي الأمي هذه العلوم والحقائق، وهذه القصص عن موسى منذ الولادة إلى النهاية، وهو لم يكن شاهداً ولا حاضراً، وهذا ما يلفت إليه القرآن أذهان الناس وعقولهم، فقال: ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ [القصص: ٤٤]، أي: لم تكن بجانب الجهة الغربية من الشجرة المباركة في البقعة المقدسة عندما أوحى الله إلى موسى عليه السلام ما أوحى وكلمه بما كلمه، وقضى الله جل جلاله الأمر والرسالة والنبوة، والهداية والتكليف منه جل جلاله إلى موسى، وهو الأمر الذي يشار إليه بالأمر، فلم تكن حاضراً إذ ذاك، فمن أين لك هذا لولا أن الله أكرمك بالوحي، وعلمك ما لم تكن تعلم، وكان فضل الله عليك عظيماً؟ كما أن له الفضل على أتباعه المؤمنين به وبجميع ما جاء به ففضل الله عليه وعلى أتباعه عظيم.
قال تعالى: ﴿وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: ٤٤]، أي: لم تكن بجانب الغربي مع موسى عندما كلمه الله، ولا من الحاضرين في عصره، المشاهدين لحياته، كيف ولد، وكيف قذف في اليم، وكيف أخذ إلى فرعون، وكيف كبر، وكيف قتل الفرعوني، وكيف خرج من مصر، وكيف بقي في مدين إلى أن تزوج وأصبح زوجاً وأباً، وكيف رحل بعد ذلك إلى أن كلم بالوحي، ثم كيف عاد إلى مصر، فمن أين لك كل هذه الحقائق لولا إنعام الله عليك بالوحي وبالعلم وبما علمك به؟